بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين .
تأتي الدعوة من جديد الى التربية الإيمانية ، في زمن لم يعد أمام إنساننا أي خيار ، حيث فقد نفسه المتطهرة ولبسته نفس كلها آثام .
في زمن يشعر فيه المرء أحياناً بالتوبة والطهر ، ويتلمس نفسه الخيرة الذاهبة تعود إليه في بعض الأحيان ، ولكنها لا تلبث أن تهرب ويحاول أن يتشبث بها ولكن لا ينجح .
أحياناً يطلع علينا نور الإيمان ، وأحياناً يشملنا الإنكار من يمين ويسار ، وكأن في الواحد منا روحان ، روح طيبة وروح خبيثة أيضاً ،أحياناً يشعر بروحه تتعذب ، وأحياناً يشعر بها ترقى وتسمو وتكاد تطير حتى لكأنها النسمة أو الضياء .
هل هو الضياع ؟ أم الهروب من النفس الشريرة إلى ضجة الحياة ، أو أنه الهروب من ضجة الحياة إلى هذه النفس الشريرة ؟ وماذا عن النفس الطيبة الخيرة ؟ ألا يمكن العودة إليها ؟ أم أنها تدمرت بفعل المجتمع الميكانيكي وثورة العصر التكنولوجي الباهر ؟ وإذا كانت قد تدمرت ، ألا يمكن جمع أشلائها من جديد ؟ يمكن من خلال معجزة ، والمعجزة اليوم يصنعها الإيمان .
والمعجزة التي يصنعها الإيمان حقاً ، تتمثل في بناء الإنسان بناءً سوياً متوازناً ، بعيداً عن تناقضات العقل والقلب والنفس التي تتراوح بين الإيمان والشك ، من دون ثبات أو من دون الوصول الى الحقيقة الكبرى ، وبعيداً عن استبداد نزوات المال أو السلطان أو الجسد .
إنه الإيمان الذي يفتح النفس والروح والوجدان ، ويزيد الإنسان إتصالاً بالعوالم الكبرى فيما وراء الطبيعة ، كما يزيده انعزالا عن الرغبات الصغيرة من مطالب الحياة اليومية ، ليزداد إندماجاً فيما هو أعظم وأسمى وأخلد ، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان في عالم المادة وحده ، ولا معنى لإنسانيته إذا أهمل عالم الروح والعاطفة والوجدان ..
هل يمكن أن تحلو الحياة لو كانت أبعادها مما يمكن قياسه وتصويره ومعرفة أوله وآخره ، وبدايته ونهايته ، وهل يمكن أن تحلو الحياة وهي معروفة الجوانب والأحداث بتفصيلاتها كأنها كتاب مقروء ؟..
إن أجمل ما في الحياة هو المجهول ، وأجمل ما في المجهول محاولة معرفته ، وأجمل من محاولة معرفة المجهول هو العجز عن معرفته ، وأجمل من العجز عن معرفته الإيمان بالقوة العظمى المسيطرة على الكون والمسيرة له والقائمة عليه .وأجمل من الإيمان بهذه القوة الجليلة الخضوع لها والاطمئنان لها وإليها ، وهذا هو الرضى الذي يتشعب إلى قوة وشجاعة وصبر وصدق وعزيمة وثبات، وتلك سجايا إيمانية راقية جسدّها الحسين يوم الطف هو وأهل بيته وأصحابه .
فعندما لا تهاب أحداً غير الله تكون أقوى من كل الناس ، وحينما تطمئن إلى أن الله هو القادر أن يطمأن نفسك وأن يشرح صدرك ويشد أزرك ، فإنه لايعنيك بعد ذلك إلا أن تكون راضياً عنه دون كل الناس ، راضياً عنك دون كل الناس ، وبذلك ترى طريقك بوضوح ولا تتشتت في مسالك الحياة المتنوعة ، كل منها يغريك ويؤذيك وقد يكون فيه هلاكك دون أن تدري ..
وهذا هو السبب في أن أعظم ما تم في العالم إنما تم بقوة الإيمان ، وإن أعظم الناس قوةً ونفوذاً وأثراً وقدرةً على التغيير هم المؤمنون أقوياء الإيمان ، الصابرون صادقو الصبر .
وإنك لتقرأ مبهوراً قصص الشجاعة والبطولة عبر تاريخ الحسين ، وتتلمسها متعجباً في مشاهدات الحاضر ، سواء كانت بطولةً أو شجاعة دينية أو سياسية أو إجتماعية ،ويروعك فيها جميعاً أن الإيمان هو الدافع والوازع، سواء كان إيماناً بفكرة أو قضية أو غاية أو دين أو وطن أو حقيقة من الحقائق .. أرأيت .. كيف أن أساس الحياة كلها هو الإيمان والاستقامة عليه .
وإن إيمان المسلم وكماله يتكوّن على طريق الاقتراب من الكمال المطلق وإن باب هذا الاقتراب هو الإيمان أي القلب والوجدان، ومن هنا فإن قلب الإنسان عندما يتعلق بالله فهو معنى المحبة والمودة، والمودة إنما تكون حقيقية إذا كان منشأها القلب، وحينئذٍ سيكون مؤشره هو التشبه بصفات المحبوب، وفيما لو غفل المحب عن محبوبه وعن التشبه به، فذلك يعني ضعفاً في درجة الحب وتزييفاً في أصل المودة والعشق.
فالإنسان الذي يحب الله سبحانه ويعشق الأدلاء عليه وهم رموز الولاية الإلهية ومظاهرها من الأنبياء والأئمة سوف لن ينفك عن الالتزام بشؤون هذا المحبوب وعن التخلق بأخلاق المعشوق وبما يريده وما يصدر عنه من إرشادات وتوجيهات، بإعتبار أنهم الأساتذة الحقيقيون في مدرسة التربية الإيمانية، وإن إنتهاج أي طريق للوصول الى تربية النفس والروح تربية إيمانية ووجدانية فاعلة عن غير هذا الطريق لن ينتج حتماً بإعتبار النقص في المربي وعدم لياقته لذلك .
ومما لا شك فيه أن الأمة عندما تجعل مودتها ومحبتها في هؤلاء الأئمة من رموزالمدرسة الإلهية، سوف يكون هؤلاء العظماء باب ربطها بالله سبحانه باعتبار عصمتهم وكرامتهم كما سوف يكونون منابع أمينة ومصادر سليمة لعطاء الرسالة وأحكامها وأخلاقها وسائر مفاهيمها، وبهذا الترتيب يصبح حب أئمة أهل البيت ( ع ) والتعلق القلبي بهم ضمان حفظ الشريعة من أي تحريف أو تشويش أو خطأ كما وقع فيه من لم يجعل مودته لهؤلاء الرموز حيث انتهى به الأمر إلى مذاهب ومشارب شتى، ضالّة ومضلّة .
وإذا كان العالم الإسلامي الحاضر يشهد اليوم درجة ما من درجات الوحدة الثقافية التي تربط قلوب المؤمنين، من أدنى الأرض إلى أقصاها، فالفضل كله لهذا القرآن الذي قدّم للإنسانية نماذج رفيعة من البشر تنحني بين أيديهم الملائكة إجلالاً للسر الملتمع في نقاء أرواحهم وصفاء نفوسهم وهي نماذج الولاية من أئمة أهل البيت (ع) الذين نعتقد أن الوجه الآخر لعصمتهم هي في قدرتهم الفائقة على تكوين الإنسان المؤمن الذي تكفلوا بتربيته روحاً وقلباً وعقلاً وتهذيبه مشاعراً وأخلاقاً .
فهل آن للمسلم القرآني الذي يسعى الى تلمس الإيمان في كل لحظة من حياته، أن ينتقل بكيانه كله بمشاعره وعواطفه، بعقله وقلبه إلى معاهد الوحي ومدارس الآيات من آل محمد (ص) ليعتمدهم ـ كما هو مقتضى مبدأ المودة ـ مجمعاً للعقول وجاذباً للقلوب ومصدراً لتوحيد الكلمة، ومَعيناً عذباً يجتذبه إلى الحياة المثلى، فلا تقاطعه حواجز الفرقة والعداوة والبغضاء، وليشد أزره بالثقلين ـ كتاب الله وأهل البيت ـ وليقوى بهما وفي صحبتهما على أي حال وليخشع قلبه لمنادٍ ينادي للإيمان .
[ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون ](1) .
ففي السبر التاريخي العام لترقب ولادات الحقائق الموصولة بعرفان الحقيقة ، نتلمس رجالاً كانوا الى معنى المعجزة أقرب من حيث كانت ولادتهم إنبعاثاً من الضمير والكرامة ، وإشراقة من النور والحقيقة ،من عقليات الإمام علي بن أبي طالب الى روحانيات الإمام زين العابدين ،ومن دم الإمام الحسين الشهيد الى مداد الإمام علي بن موسى الرضا ،وما يتفاعل بينهم من تأصيل للفكر والعبادة وتواصل مع الأمة على معنى الحرية والإنعتاق وتكاليف الإستقامة وعقيدة التوحيد ، رجالٌ كانوا المعجزة في أقرب مفاهيمها، وأصدق معاييرها، وفي أسنى تألّقها، وأبهى تجلّيها. لا شكّ في أنّها كانت آية ظاهرة، تهدي إلى قوّة قاهرة وراء الغيب لتنير الكون، وتدفعه إلى سبله المستقيمة، تدعو إلى التصديق الواعي، بحقيقةٍ أخرى من غير هذه المادة، ومن غير نشأة الملك وملابساتها الظاهريّة، تلك هي حقيقة الخالق العليم (بنا عُرِف الله).
وليس من شكّ في أنّ للمسلمين أوفر النصيب من هذا النمط البالغ في سنائه وبهائه حدّ المعجزة الخارقة من الأبطال البارعين. .فالنبي الأكرم محمّد(ص) وأهل بيته الأطهار(ع) قِممٌ لا شكّ في مجدها وسموّها، سلسلة شاهقة من جبالٍ لا يرقى إليها الطير.حتى لكأنها نجوم في السماء لا تُطاول ،كانت تحمل أمانة النور وشرف الحقيقة وأوتاد صعيد الفكر، ولولاهم لتزلزل وماد، إذ أنّهم سفن محيط الشكّ الذي لولاهم لغُمِر كلّ حيّ ونزل القعر البعيد، وغاب في غياهب ظلمات الجهل ومهاوي التسيب بين الأنا والشيطان .
ومن قِمم هذه السلسلة المباركة كان الإمام الحسين بن علي (ع) الذي استقرّ في أشمخ قمّة وأروعها، بعد السعة الوجودية لجده النبي(ص) والنفس الرحماني لأبيه الوصي (ع).
فليكن يوم الامام الحسين يوم إيمان وعمل من أجل السلام في العالم ويوم صلاة من اجل جميع المعذبين في الارض .