ابو الأسود الدؤلي المؤمن الصلب والمؤسس على ارشاد من سيده علي (ع) علم النحو لحماية اللغة العربية من العجمة بناء على حوار مع ابنته ، والذي لم تكن حياته الزوجية تخلو من الحب والحنان الداخلي الذي يخطئ الطريق في التعبير والوصول الى قلب زوجته وعقلها .. طلق زوجته ، ولكنهما تنازعا على حضانة طفلهما ، فرفعت أمرها الى سلطان العصر فالتقيا في مجلسه فقال أبو الأسود يا أمير المؤمنين هذا ولدي ، حملته ووضعته وغذوته ، فقالت : بلى يا أمير المؤمين ، حَمله خِفا وحملته ثقلاً ، ووضعه شهوة ووضعته كرها ، وغذاه بماله وغذوته بدمي .. فقال : خذي ولدكِ .
وفي تقديري الذي يحتاج الى تدقيق ، أن الحضانة من الحضن ، والحاضن الطبيعي هو الأم .. وإذا كان للوالد حضن فهو يأتي في دوره أو حقه بالحضانة ( حق الطفل أصلاً) في طول حضن الأم ، كما يقول الأصوليون والفقهاء ، أي بعده ، لا في عرضه أي انه ليس مساوياً له .. وعليه فالأولى هو حضن الأم إلا إذا كان هناك مانع من أن يكون حضنها قادراً على الاحتضان وهو أمر شديد الندرة وحصول الموانع لدى الأب أكثر .
وفي فقهنا أن المرضعة إذا ما كانت مصابة بمرض في عيونها فإنه يكره لها أن ترضع طفلها فإن اضطرت للإرضاع امتنعت عن النظر الى وجهه ، لأن الإندماج الروحي والجسدي الذي يحصل أثناء الرضاعة بين الأم ورضيعها ، يجعلهما واحداً ويجعل انتقال الحالة النفسية أو الجسدية الى الطفل أمراً قوي الاحتمال .. ويؤكد علماء الطب والأنسجة خصوصاً (الباتولجيا) ووظائف الأعضاء (الثسيولوجيا) أن الإرضاع حاجة للمرضعة وأنه دواء شاف لأوجاع جسدها وروحها ومنعها منه أوجع ، وتمكنها موجع ولكنه الوجع اللذيذ وغذاء الأمومة روحاً وجسداً .
ولطالما روت لنا أمهات ضيعتنا اللائي أتقن الصبر على حصاد القمح وحرارة الشمس كما أتقنَ أمومتهن في العمق ومن دون لغة أحياناً إلا لغة الحب المباشر .. روينَ لنا عن حالات في أثدائهن تأتيهن أثناء العمل بعيداً عن رضيعهن حيث يتحرك لبن الأمومة وكأنه نداء آت من المهد أو من السماء ، فتقف الأم وتلقي منجل الحصاد أرضاً ، وتحل منطقتها وتمشي من دون كلام عجلى الى المنزل ، وتنظر اليه يناديها بالبكاء وحركة عينه الباحثة عن خيالها .. تشرب تطفئ غُلتها وتمسح عرقها وتتمهل حتى تهدأ وتخف حرارة بدنها قبل أن ترضعه خشية أن يصاب بالحمى بفعل الحرارة.
اليس من هنا قال رسول الله (ص) : " كلما أرضعت قيل لها غُفر لك فاستأنفي عملك"، أي ان لبنها يحط ويمسح عنها كل ما اقترفته من ذنوب قبله ومن دون استثناء !!!
ومن هنا جاء الأدب الإلهي عظيماً عندما تحدث عن أهوال يوم القيامة " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" يبلغ الخوف والرعب ذروته وفي الذروة ، في ذروة الذروة ، لا قبلها ، تذهل المرضعة عما أرضعت سابقاً لا أثناء الرضاعة ، لأنها تكون قد فقدت ذاكرتها ، ذاكرة الروح والجسد ، أو أسقطت ، لأن جسدها من دون وعيها ، لم يعد يقوى على الحمل .. وفي المثالين البالغين انحصر التمثيل بعلاقة الأم بالرضيع والحمل.. بينما أخذ التعبير عموميته من دون مثال آخر ، حيث لا مثال أعلى وأبلغ من مثال الأم في علاقتها العضوية برضيعها أو حملها .. " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى" . ذهول آخر ولكنه ليس كالأول .. لأن الاول تكويني والآخر طارئ .. هذا هو تكوين المرأة الذي يؤهلها للامومة ، فأنوثتها هي الأصل والأمومة فرع لهذا الأصل وفي الفرع ما في الأصل وزيادة كما يقول الفقهاء أيضاً .. ولكن الأصل ، المرأة ، هو الأصل ، ولولا هذا التكوين لما كانت أماً ، بهذه اللياقة العالية .
ومن هنا جاء النص القرآني قاطعاً حيث خصص الأم بالمزيد من التوكيد .. "ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن" فذكرها مرتين ، مرة كأحد الوالدين ومرة كأم ، لا تجد سلامتها وعافيتها وفرحها وحلمها الا في آلام الحمل والوضع والإرضاع والتربية " إذا وضعت كانت كالمنشحط بدمه في سبيل الله" أي كالشهيد "فإذا أرضعت أو سهرت كان لها بكل سهرة أو رضعة كعتق رقبة من ولد ابراهيم" أي ان الإرضاع والسهر معادل للحرية أو التحرير .. أليس هذا مجداً يقصر عنه عظماء الرجال وكرامهم ؟ هذا لسان الرسول (ص) وعن الله طبعاً !!.
ومن هنا جاء التكرار التوكيدي في وصية الرسول (ص) لسائله من أبرّ ، قال :" أمك ثم أمك ثم أمك (ثلاثاً) ثم أباك "واحدة".
وهذا عدل ليس فيه انتقاص من حق الأب .. والمساواة هنا خلاف العدل الذي يقتضي أن يكون البر والأجر مساوياً للعناء والعناية .
قال لي : إن زوجتي لا تحسن معاملتي . قلت : كيف ؟ . قال : قالت لي لعنة الله على من عرفني عليك . قلت : كم ولداً عندك ؟ قال : أحد عشر . قلت : وماذا تقدم لهم ؟ قال : لا شيء فأنا عاطل عن العمل . قلت : وكسول أيضاً أو أساساً . قال : بلى .. قلت : تعال نحسب معاً .. أحد عشر ولداً يعني 99 شهر حمل ، وسنتان من الإرضاع لكل ولد كما هو جاري عادة القرية ، يعني 264 شهراً وبعدها ثلاث سنوات رعاية ليلية ونهارية يعني 396 شهراً من دون أن يعني ذلك نهاية الهم والتعب فيصبح المجموع 859 شهراً ، يعني (109854) يوماً . قال : صحيح .. قلت : أعلم أن علماء الطب يقولون بأن النطفة وبمجرد أن تلقح تتحول الى (دبوس) يجول على جدار الرحم ينقره ليتغذى بصافي الدم السائل من جروحه .. وعندما تصاب الحامل بالوهن والشحوب تكون النطفة في حالة تكون العظام فتأخذ الاستئثار بالنسبة الأعلى من الجير في دم الأم لأنه ضروري لتكوين العظم .. ودعنا من آلام الوضع وخطر الموت أثناءه.. قال : نعم .. نعم .. قلت : اريد أن آتيك الآن بشال من حرير ألفه على كيلو غرام من القطن المعقم والمعطر واشده برباط على ساعدك أو ساقك .. فكم تتحمل أن يلازمك أينما ذهبت من دون أن يشاركك شرابك وطعامك .. فضلاً عن دمك وأنفاسك ؟ قال : شهر ، لا أسبوع ، لا ولا يوم .. قلت إذن لعن الله من دلك عليها ودلها عليك ، ألم تسمع ما قاله رسول الله (ص) :"شرّكم شرّكم لأهله وخيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ".. والأهل في أدب العرب هي الزوجة كما لا تعلم !!!.
وقرأت مرة في الصحافة أن أماً أميركية لثلاثة أطفال اضطرت أن تغادر المنزل في يوم عطلة لمتابعة شؤون شخصية جداً وتركت الأطفال في عهدة أبيهم .. وعندما رجعت لم تجده في المنزل ، وقد ترك لها رسالة أحصى فيها 300 حالة معالجة لمشاكل الأطفال الضرورية والشخصية والتوافقية فيما بينهم وذيل رسالته قائلاً : خرجت قبل دقائق من وصولك لأشتري لك الغسالة التي كنت تطلبينها مني منذ سنة.
أيها الفقهاء ، ايها القانونيون ، أيها السياسيون ، لا تتهاونوا في حماية الأم ، اي المرأة ، لأن أعظم الرجال لا يستطيع أن يكون أماً ولو سيئة ، وهل هناك من أم سيئة ! " قال يا رسول الله إن أمي سيئة الأخلاق ، قال : وعندما حملتك كانت سيئة الأخلاق" . من أجل الغد ، من أجل الدنيا والآخرة .. حرروا المرأة .. عفواً هذا ادعاء وكبرياء ذكوري قاتل : دعوا المرأة تحقق ذاتها كفاء ما هي متحققة في وظيفتها الانسانية والحضارية .. حيدوا عن طريقها الى الحرية التي لا تكون إذا ما كانت منقوصة ، والتي لا يخشى من اكتمالها إلا الناقص في عقله ودينه وحظه، لأن الناقص هو الذي ينتقص من الحق والحقيقة ، أي الحرية .. والحرة أكثر من غيرها ، أو وحدها ، هي التي تريد وتستطيع أن تعالج أخطاء الحرية بالحرية ، أما المستعبدة ، أو المنتقصة حقوقها فهي أسيرة ظلمها ما يجعلها تستخدم أعصابها المستفزة أكثر من عقلها وحكمتها . وأسألوا عن أجيالنا التي كانت فيها المرأة شريكة في العمل والقرار من دون فقه وفقهاء وحقوقيين وساسة ودستور كيف كانت الأغلبية الساحقة من أيتام الأم تتحول الى عقد وكوارث وجهل وضياع وجوع ؟ وكيف كانت الأغلبية الساحقة من أيتام الأب تتحول بفضل الأم الى نجاح وفلاح تربوي وعلمي ومالي واجتماعي .. وطني !! وكيف يصبح ايتام الأب قساة وجفاة ويصبح أيتام الأم رحماء بأمهاتهم والناس والوطن والدين وذكرى آبائهم الراحلين ؟
وهل يكفينا أن تقول (صادقين) بأن الاسلام أعلى من شأن المرأة قياساً على ما كان قبله . وهل يكفينا ذلك الأن ، ومن دون البلوغ بهذا الشأن غايته بتحويل التوجه العام الى قانون أو شرع انساني وتحريره من مزاجية القضاة وذكوريتهم المرضية ورغبات قبائلهم ، ومطامعهم ، وجهلهم أحياناً وحرفيتهم التي تحول بينهم وبين الوعي بمقاصد الشرع ؟ وحرروا المرأة التي أصبحت أماً أو التي سوف تكونها ، من رهاب الذكورة ، وحرروا الأولاد من رهاب الولاية والوصاية ، والحضانة التي هي شأن الأم اولاً . شأن المرأة المشتقة من المروءة . شأن الزوجة التي هي زوج أساساً ، أي مثل زوجها وخصوصياتها الوظيفية مجد لا نقيصة .
حرّروهن لكي تكونوا أحراراً لأن الحرية لا تقوم على اغتصاب حرية أخرى . حرروهن في البداية حتى لا تصبحوا رقيقاً لهم في وسط العمر أو آخره مضطرين ، في حين تكونون قد أفقدتموهن كثيراً من لياقات الأحرار في التعامل مع ظالميهم أو منتقصي حريتهم . فتظهر منهن قسوة عليكم ليست من شأنهن لولاكم ، لولا الذاكرة المرة والجارحة .. حرروهن وإلا استقصينا الفضائح ، في خضوع الكبار منكم وفي كل الحقول وإذعانهم لمشيئة زوجاتهم اللواتي يتعسفن في أدائهن بعدما حاولن العدل فلم يسمح لهن ، حتى أمكنتهن الفرصة عنوة عليكم .. ولا تلومونا إذا قلنا بأننا نعلم مدى خنوع الكثيرين منكم لإرادة العشيقات ، والتنازل للزوجات عن الكثير الكثير رغماً ، طلباً للسترة والاستمرار في ممارسة التناقض القبيح .
ولي سؤال.. ولنقم باستطلاعات ، حتى لا يبقى الصوت وكأنه رجم بالغيب . لي سؤال : كم مرة عافت الزوجة زوجها المريض ؟ وكم مرة عاف الزوج زوجته المريضة ؟ وكم مرة تكفل الولد والديه في عجزهم ؟ وكم مرة ترهبت البنت لخدمة والديها العاجزين ؟
وسؤال آخر .. ألا ترون الى الأمهات اللواتي يبتلين بأولاد معاقين كيف يتعاظم حبهن لهم وعنايتهن بهم ، وأحياناً أكثر من الأولاد الأصحاء ! هذه هي القاعدة .. وكلها قواعد لها استثناء قطعاً .. واسمعوا الأم كيف تتحول الى كتلة من المحبة تعمل في كل الاتجاهات " قيل لها أي أولادك أعز عليك ؟ قالت البعيد حتى يحضر ، والصغير حتى يكبر والمريض حتى يشفى ". وسألوها : " اي أولادك أفضل" . فقالت : "فلان لا بل فلان لا بل فلان" .. ثم قالت "عدمتهم إن كنت أعرف أيهم أفضل .. إنهم كالحلقة لا يُدرى طرفاها" .. لا أحد يريد أن ينتقص من موقع الأب أو دوره أو عاطفته .. ولكن هناك من يريد أن لا تنتقص قيمة الأم أو المرأة بذريعة فوقية الأبوة والذكورة ودونية الأمومة والأنوثة . إنصافاً للشرع والقانون والأم والطفل والأب اذا اقتضى الأمر .
ولي رجاء هو أن يتكرم الكبار في المؤسسات الروحية القائدة بتشكيل فريق استقصائ لمظالم الأطفال والنساء المطلقات والذين تظلمهم الأحكام الجائرة أو غير المدققة أو الخاضعة للضغوط المباشرة وغير المباشرة ، وإملاءات الطمع والحرام أو الإذعان قضاء للدين السياسي الزبائني .. أما إذا كانت الأحكام عادلة فهي تبقى في معظمها من دون ضمانة تطبيق أو تنفيذ ولأسباب عديدة لا تخلو من السياسة والرشوة لجهات التنفيذ .. ولطالما كانت علاقات احد الأطراف والأب خصوصاً بجهة سياسية نافذة مدعاة ليأس الأم من إيصال ظلامتها الى المحكمة أو خوفها من أن يحل بها ظلم أكبر لأن الأب يقدم للجهة المعنية خدمات لا تستغني عنها ! .. ندعو الى هيئة استقصاء شرعي وقانوني .. وقبل ذلك الى تشكيل لجان للتحكيم من اختصاصات وخبرات متعددة .. درءاً للمفاسد الكثيرة . وهذا أمر عجل اليه القضاء والمجتمع المدني والعلمي المصري ، وإن كان التطبيق يواجه عقبات ومصاعب يمكن التغلب عليها بالجد والمثابرة .. وقد كان ذلك بعدما اطلع الحكماء على الكوارث المتأتية من قصور المحاكم وتقصيرها والتعقيد الذي تراكم على حياة الأسرة وعلاقاتها الداخلية . وكان ذلك تطبيقاً معاصراً للدعوة القرآنية الى التحكيم الذي يعضد القضاء ولا يلغيه مع توسيع أطر التحكيم وإضافة الخبرات العلمية والميدانية الى العقلاء من الأرحام .
ختاماً .. وإذا كانت ظروف المعيشة قد أعطت الفقيه أن يحدد حق الحضانة للصبي بعامين وللبنت بسبعة أعوام ، نظراً للضرورات المعيشية والجسدية ، فإن الحضانة في ظروفنا يفترض فيها أن تستوعب ذلك وتتجاوزه ، نظراً الى أن الحضانة الآن تتصل بالحاجات النفسية أكثر من الماضي بكثير وأكثر من الحاجات المادية لتضعنا أمام ضرورتين حقيقيتين ، فقد أصبح مسلماً لدى كل ذي عقل وعلم أن الصبي بعد السنتين والبنت بعد السبع يصبحان أحوج الى عناية الأم ورعايتها من ذي قبل ، وأن الأب عموماً غير قادر على القيام بهذا الدور الذي يتصل بالاستعداد الذاتي لدى الأم (المرأة) وضرورات الصحة النفسية والجسدية والذهنية لها وللأولاد وللأب والمجتمع أيضاً .