بسم الله الرحمن الرحيم
ان الناظر في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات يدرك ان الاختلاف حقيقة قائمة في لغاتها وعاداتها وتقاليدها وفي اشكالها وألوانها.
وهذا الاختلاف هنا بمعنى المغاير الشامل للافراد ايضاً حيث ان لكل فرد وجوداً خاصاً به يمتاز به عن غيره.
وهذه الوجودات المتعددة هي التي يعبر عنها في اللغة بـ(انا وانت وهو وهي وهم وهن) وغير ذلك من الالفاظ التي وضعت في اللغة للدلالة على هذه الوجودات المتعددة والتي يختلف بعضها عن البعض الآخر وكل واحد منها يشكل معنى جزئياً حقيقياً كما يقول علماء المنطق في تعريفه بأنه (المعنى الجزئي الذي يمتنع انطباقه على اكثر من فرد).
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الاختلاف بمعنى التعدد والتغاير بأنه من آيات الله سبحانه وتعالى (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين) الروم: 32.
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا ان هذا الاختلاف بالمعنى المتقدم هو سنّة من سنن الخلق والتكوين فهو بمعنى الاختلاف عن الآخر وهو لا يعني بالضرورة الخلاف والاختلاف مع الآخر فقد تجتمع الافراد والجماعات على قواسم مشتركة وعلى قواعد عامة في قضايا الفكر والسلوك والنظام العام رغم وجود الاختلافات الكثيرة بينهم في عالم الآراء والأفكار والارادات والمعتقدات حيث لا وجود للاستنساخ في عالم العقل الانساني وما ينتج عن إعماله في حقول العلم والمعرفة.
وفي القرآن الكريم ايضاً اشارة جلية الى حقيقة الاختلاف الفكري بين بني البشر كما جاء في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99.
وقوله تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا مَن رحِم ربك ولذلك خلقهم..) هود: 118.
وقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعاً فننبئكم بما كنتم فيه تختلفون) المائدة: 48.
والمستفاد من هذه النماذج من الآيات المباركات ان الاختلاف في الآراء والمعتقدات هو حقيقة قائمة ايضاً وباقية الى يوم القيامة ولكن الحياة الدنيا هي المجال لاستباق الخيرات والتنافس عليها رغم تعدد آرائنا واختلاف افكارنا ومعتقداتنا.
وقد تحصّل ان الفكرة التي ترمي اليها الآيات وهي الواقع الذي نشاهده ونعيشه في حياتنا ان الاختلاف بين الافراد والجماعات والأمم والشعوب لا يقتصر على الاختلاف التكويني بينهم الذي يستلزم التعدد والتكاثر بل هو يشمل عالم الفكر ايضاً وما يتفرع عنه وهذه الحقيقة يجب القبول بها والانطلاق منها في عالم العلاقات التي نبنيها مع الآخر سواء كانت بين فرد وآخر وجماعة مع جماعة اخرى في الامة الواحدة او بين امة وأخرى على قاعدة قوله تعالى:
(يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات: 13.
الاختلاف لا يعني التصادم:
ومن خلال ما تقدم من معنى الاختلاف يظهر ان الاختلاف لا يعني التصادم بين المختلفين في آرائهم وافكارهم كما نرى ذلك في الثروة الفقهية التي تكاثرت من خلال اختلاف الآراء والاجتهادات وهو ما نراه في مختلف مجالات الفكر الانساني ويشير الى هذا المعنى الذي ذكرناه قول الشاعر العربي حيث استعمل الاختلاف في الموارد التي لا يوجد فيها تصادم:
هوى ناقتي خلفي وقدّامي الهوى
وإني واياها لمختلفان
وقول آخر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راضٍ والرأي مختلف
فالاختلاف كان موجوداً ولكن خطة السير واحدة والرضى كان قائماً مع الاختلاف كما هو الحال في المودة التي لا يفسدها اختلاف الرأي وقد حكي هذا المعنى على لسان قيس بن الملوح وليلى العامرية:
فلأني انا شيعـي وليلى أموية
فاختلاف الرأي لا يفـسد للود قضية
الخلاف والاختلاف:
وقد يؤدي الاختلاف في الآراء والافكار الى حصول الخلاف والنـزاع بين ذوي الآراء المختلفة والافكار المتعددة عندما يحاول كل ذي رأي ان يثبت صحة رأيه ومعتقده وان يبطل الرأي الآخر وهنا تظهر الحاجة الى القوانين التي تحكم هذا الخلاف وقد ادرك علماء المنطق المسلمون وغيرهم من العلماء الناظرين في اصلاح المجتمع والأمة انه لا بد من بقاء الخلاف في الاطار الفكري بين المختلفين وبذلك تتراكم المعارف وتزداد مسائل العلوم وتتقدم المجتمعات في مختلف الحقول والميادين وقد وضعوا الآداب والوصايا التي تحكم المناظرات والاحتجاجات وتبقيها مطبوعة بالطابع الفكري وقد استفادوا جلّ هذه الوصايا من المنطق الذي رسمه القرآن الكريم في ادارة الخلافات الفكرية التي جرت في حياة الانبياء مع أممهم وشعوبهم.
واذا كان الخلاف حقيقة وأمراً واقعاً في حياة المجتمعات فلا بد من التعاطي معه كذلك بالشكل الذي يحافظ فيه على التنوع والاختلاف من خلال تنظيم الخلاف وابقائه في الدائرة الفكرية دون التأثير على نظم امور الجماعة في حياتها وعلاقاتها العامة.
وقد جعلوا من آداب المناظرة والخلاف اموراً عديدة نذكر اهمها:
منها: مرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فإذا كان الخلاف في المسائل الدينية العقائدية والفقهية فلا بد من الرجوع اليهما باعتبار ان القرآن الكريم والسنّة النبوية من المصادر الاساسية للآراء في العقائد الدينية والاحكام الشرعية كان لا بد من العودة اليهما عند وقوع الخلاف على قاعدة قوله تعالى:
(يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء: 59.
ويمكن الاستفادة ايضاً من الكتاب والسنّة في طريقة الحوار والاختلاف مع الآخر التي لا تنطلق من الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة وان الطرف الآخر هو الباطل المطلق كما جاء في قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم) فهو لم يقل لهم باطل ما تزعمون ولكنه طالبهم بالبرهان والدليل وفي آية اخرى: (وإنّا أواياكم لعلى هدى او في ضلال مبين) سبأ: 34.
ولذلك كانت سيرة السلف الصالح من العلماء عند الوصول الى رأي او عند الاجابة على استفتاء يقولون في نهاية الاستفتاء وابداء الرأي كلمة (والله اعلم) وهذا هو المنقول عن الإمام مالك وغيره من الأئمة الذين كانوا يقولون: (رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب).
فالحقيقة التشريعية قد تتعدد وقد لا نكون في جانب مدعيها وانما هو قد بذل قصارى جهده في الوصول اليها ولذلك قد اتفقت كلمة علماء الاسلام على عدم جواز تكفير المسلم بذنب فكيف اذا كان رأياً اجتهادياً يحتمل الصواب؟!. وهو معذور فيه على كل حال بل هو مأجور مرتين ان اصاب ومرة ان اخطأ كما ورد في بعض الروايات.
ومنها: اجتناب السباب والشتم واللعن والسخرية بالطرف الآخر ومعتقداته لأن هذا الاسلوب يؤدي الى تأجيج نار العداوة واستحكام الخلاف ويوقظ مشاعر الحقد والشحناء ويفسد مساعي التقارب ويذهب بالفائدة المتوخاة من المجادلة الفكرية الهادفة للوصول الى الحقيقة وقد استفادوا هذا الامر من نصوص القرآن والسنّة من القرآن الكريم كقوله تعالى:
(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) النحل 125، وقوله تعالى:
((ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن) العنكبوت: 46، وقوله تعالى:
(اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولاً لينّا لعله يتذكّر او يخشى) طه: 44، وقوله تعالى:
((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) الانعام 108.
وقد استفاد العلماء المسلمون ان هذه الطريقة المطلوب التعامل بها مع اهل الكتاب وغيرهم هي طريقة مطلوبة في تعامل المسلمين بعضهم مع البعض الآخر بطريق اولى واستفادوا ذلك ايضاً من السنة النبوية كقوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وقوله (ص): (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا).
ومنها: التواضع في الخطاب وتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والابتعاد عن الكلمات النابية والقبيحة وقد استفيد هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى:
(ولو كنت فظاً غليط القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159.
ومن الوصايا: ايضاً في آداب الخلاف وهي اهمها كما يقول علماء المنطق وهي تتلخص في ان يكون الهدف الاساسي من الحوار هو الوصول الى الحق وإيثار الانصاف وليس التشنيع برأي الآخر والغلبة عليه وان يتجنب المحاور العناد بالاصرار على الخطأ ان ظهر له فإنه يكون قد ارتكب خطأين حينئذٍ لأن الاصرار على الخطأ يكون خطأ آخر وربما يكون اشد شناعة من الاول وهذا ما استفادوه من قوله تعالى:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى) المائدة: 8.
وقد كان من اساليب البحث العلمي عند بعض العلماء الذين ادركناهم ان يبتدأوا بعرض وجهة النظر الاخرى واستعراض أدلتها والتماس ادلة اخرى لها قبل الاستدلال على الرأي المختار.
وقد كانت معظم هذه الوصايا موجودة في المدارس الفقهية والكلامية في المدينة المنورة وفي الكوفة وبغداد والبصرة وسائر الحواضر العلمية في العالم الاسلامي وكانت جزءاً من المنهج العلمي المعتمد عند الائمة والدارسين كما يحدثنا التاريخ الاسلامي عن تلك المناظرات الفقهية التي كانت تدور بين الامام الصادق والامام ابي حنيفة وسفيان الثوري والحسن البصري ومما يلفت النظر ان بعض الحوارات كانت تجري مع الزنادقة دون حرج كما جرى بين ابن ابي العوجاء والامام الصادق ومع الزنديق الذي جاء من مصر الى المدينة ولم يجده فقيل ذهب الى مكة فتبعه الزنديق الى مكة وسأله مسائل عديدة في العقيدة دون ان يخاف الزنديق من الامام ومن الجماعات المتطرفة ان تقطع عليه الطريق لأن السلطة السياسية تحفظ الحريات الفكرية والدينية وتحميها وليس لأحد ان يقوم مقامها في محاكمة العقائد والافكار والاشخاص لأن ذلك اختصاص السلطات القضائية المسؤولة عن النظر في هذه المسائل التي ترفع اليها ومن اللافت للنظر ايضاً في تلك الحوارات التي كانت تجري في الحواضر العلمية بين الائمة والعلماء وبين الزنادقة وغيرهم من المجادلين في امور الدين دون ان يتعرضوا لهم بسوء وانما كانوا يبذلون الجهد في اقناعهم ورد شبهاتهم فالامام الصادق مثلاً في حواره مع الزنديق الذي جاءه من مصر ولم يحكم عليه بالكفر والالحاد ولم يقم الحد الشرعي في الارتداد على ابن ابي العوجاء ولا على غيره من اهل الجدل والتشكيك ولم يصدر الفتاوى بحقهم بل كان الامر في تطبيق الاحكام – كما يظهر من تلك الوقائع – متروكاً للسلطة السياسية والجهات القضائية المنبثقة عنها.
فالائمة والعلماء كان دورهم تعليم الامة لأحكام الشريعة ونشرها والدفاع الفكري عنها وأما تطبيق الاحكام على الموضوعات وتنفيذها على الاشخاص فهو متروك للسلطات التنفيذية من باب لزوم نظم الأمر والحفاظ على النظام العام الذي تحفظ به الحقوق ولم يكن من حق اي جماعة دينية ان ترمي غيرها بالكفر او ان تقيم عليه حداً شرعياً متجاوزة دور السلطة القائمة وهذا هو الخطأ بل الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها جملة من الحركات الدينية المعاصرة التي تحكم على غيرها بالفكر والارتداد وتعمل على تطبيق الاحكام وتنفيذها بدعوى حاكميتها وتنفيذها لأحكام الله متجاوزة بذلك دور السلطة الناظمة للأمر والتي لا بد منها في قيام المجتمعات والدول والاوطان كما جاء في كلام الامام علي (ع):
(وانه لا بد للناس من امير بر او فاجر يعمل في امرته المؤمن ويستمنع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الاجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر).
ولعل من اهم الاسباب لولادة هذه الظاهرة الخطيرة والجديدة في مجتمعاتنا الاسلامية هو تحول تلك الحركات عن النهج الذي درج عليه السلف الصالح من الائمة والعلماء في اعتماد نهج الدعوة والارشاد والتعليم لأحكام الشريعة الى نهج آخر يتم من خلاله استخدام العمل الديني في مشاريع الوصول الى السلطة والبحث عنها بكل ثمن ولذلك نرى وقوع الصراعات والنـزاعات الدموية بين حركات اسلامية في الكثير من بلدان العالم العربي والاسلامي بين دعاة يفترض ان يدعوا الى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة وقد تحولوا الى طلاب سلطة بالوسائل غير المشروعة وقد نصبوا انفسهم قضاة للشريعة دون تنصيب لهم من احد وأقاموا محاكم التفتيش عن عقائد الناس وأفكارهم يصدرون الاحكام في خصومهم دون محاكمة وفي ذلك الاخلال بنظام المجتمع وتعريضه لأفدح الخسائر الاخطار التي تنذر بالسقوط والانهيار وهم بطريقتهم هذه لم يخرجوا عن أدب الخلاف فحسب بل خرجوا بسبب تطرفهم عن قواعد النظام العام واحدثوا الفرقة والبغضاء داخل المجتمع الواحد والدين الواحد والامة الواحدة وهم يقرأون قوله تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) آل عمران: 103 وقوله تعالى:
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا من بعد ما جاءهم البيان) آل عمران: 105.
هدانا الله وإياهم سواء السبيل وأرانا الحق حقاً ووفقنا لاتباعه والباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه ونسأل الله تعالى ان يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه وأستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.