قد نختلف مع الصوفي في بعض رؤاه وتصوراته لكنك بالتأكيد ستجد لديه شيئاً بل أشياء جميلة تستحق المديح والثناء، وقد تختلف مع الصوفية في الكثير من طقوسها لكنك لو فتشت عن الكلمة السواء كما أدبنا القرآن لوجدنا أكثر من قيمة مشتركة، واسمحوا لي أن أتوقف عند شيء من جمال الصوفية وعن قيمة مشتركة تجمعك وإياها ألا وهي قيمة الحب، نعم الحب، وما أحوجنا ونحن في زمن الكراهية والأحقاد إلى لغة الحب ونبضه وما أحوجنا إلى الرحمة ونح على ضفاف أعتاب شهر الرحمة والحب. ولو أننا أخلصنا في حبنا لله وكنا صادقين في حبنا له عندما تشي علاقتك معه على أساس الحب فإنك لن تعصيه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
ولذا كان للحب لديه مكانة خاصة لا يضاهيها شيء، فقلب الصوفي لا يعرف إلّا الحب ولسانه لا يلهج إلّا بلغة الحب على طريقة رابعة العدوية في بعض مناجاتها وترنيماتها الصوفية:
أحبك حبين حبَّ الهوى وحباً لأنّك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
وأّمّا الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك
والحب في قاموس الصوفي هو من أنبل العواطف الإنسانية وأجملها وأعمقها أثراً، فالحب هو منطلق كل خير وهو الملهم للإنسان والمحرّك له، وهو الذي يعطي الإنسان معنى إنسانيته، فالإنسان بدون الحب هو صخرة صماء.
وقد أدرك الصوفي قيمة الحب هذه فكان الحب ورده وذكره.
ولست أبالغ إذا قلت: إنّ الحب هو جوهر العقيدة وروحها، لأنّ الله هو الحبيب "يا حبيب من تحبب إليه" وملهم الحب، وكل ما في هذا الكون من بهاء وجمال هو رشحة من فيوضات حبه وإرسال الرسل كذلك، وعلينا كما يرى الصوفي أن نبني علاقتنا مع الله على أساس الحب وليس الخوف والرهبة وليس على أساس الرغبة والطمع وتلك قمة العبادة، "إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما ًعبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما صعبدوا الله شكراً (ولأنه أهلاً للعبادة) فتلك عبادة الأحرار"، وإنّه لخطأ كبير أن نبني علاقتنا بالله على أساس الخوف، فلماذا نخاف الله؟ فهو العدل وهل نخاف من العدل، وهو الرحمة وهل يخاف من الرحمن الرحيم، فإذا كان علينا أن نخاف فإنّ علينا أن نخاف من ذنوبنا، فتعالوا، هكذا يقول لنا الصوفي، لنتذوق حلاوة حب الله "من ذا الذي ذاق حلاوة حبك فرام منك بدلاً ومن ذا الذ أنس بقربك فابتغى عنك حولاً" وهذا الورد الصوفي الذي كان يترنم به الإمام يطل بنا على دور الحب في العقيدة الصحيحة فتوحيدك لله لا يكتمل إلّا بتوحيده على مستوى الحب لا بمعنى أن لا تحب إلّا الله، كلا، أحبب من شئت، زوجك وأبنك وأخاك وأرضك وبلدك ولكن ليكن حبك في الله ولا تجعل ما عدا الله معبوداً، {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله..} وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "القلب حرمه الله فلا تسكن في حرم الله غير الله".
وطبقا ًلهذه الفلسفة التوحيدية فإنّ حب الله في التصوف الصحيح لا يعزل الصوفي في صومعته بعيداً عن الناس وحب الناس، وعن الحياة فهو لا يهتم في صوفية تجريدية تحلق في السماء ولا تنزل إلى الأرض، بل إنّه يعيش حب الله في معترك الحياة، ويعيش حب الله في حب عيال الله، وإنّ إحدى تجليات حبه لله تعالى أن يحب عيال الله، ومن هم عيال الله؟ "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"، لاحظ "الخلق كلهم" لا لون ولا عرق ولا طائفة ولا مذهب ولا حزب.. بل كل الناس، كما كان يقول استاذنا الراحل السيد محمد حسين فضلالله رحمه الله في إحدى صوفياته: "علينا أن نحب كل الناس، أن نحب الذين نتفق معهم لنتعاون معهم وأن نحب الذين نختلف معهم لنتحاور معهم"، إنّها فلسفة صوفيّة مبدعة تعلمك لغة الحب وأن لا تكره أحداً حتى الكافر فإنّك لا تكره شخصه بل كفره.
أيها الأحبة كفانا كرهاً وحقداً، لقد قتلتنا العصبيات، وقتلت فينا الإنسان، قتلت فينا الحب، ولذا كانت العصبية حقدا وكفراً، تعالوا إلى الحب فهو إشراقة المل الباقية وهو السفينة المنجية، وقد قالها صادق اهل البيت (ع) "وهل الدين إلا الحب".
أيها الصالح الدسوقي
لقد قرأتك في كتابك في شعرك ونثرك فوجدت فيك إنسان الحب، ووجدتَني أمام فكر أصيل وعاطفة جياشة وروح شاعرية مبدعة وعشق صوفي نبيل وأدب رفيع..
رأيت فيك حكمة الشيوخ ونبض الشباب ويحق لك أن تردد مع أحمد صافي النجفي:
عمري بروحي لا بعدد سنيني فلأسخرن غداً من التسعين
عمري إلى السبعين يركض مسرعاً وروحي باقية على العشرين
شكراً لهديتك الغالية التي زادتني حباً لك وإعجاباً بك انطلاقاً من قول رسول الله (ص): "تهادوا تحابوا".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.