يمثّل فعل الصيام في التحليل المعنوي لطبيعته عملاً إيجابياً وتجربةً واقعيةً مليئةً بالمخزونات الإيمانية العالية ,كما يترجم مفهوم الثقة بالنفس , ويجسّد إستجابةً مخلصة لنداء الله سبحانه وكتبه ورسله. وإذا كان لمعنى الممانعة حيزٌ ملفت في فعل الصيام, فهو يشير إلى ما تختزنه هذه العبادة من معنى الصراع بين النظام والفوضى , وبين الإيمان والضلالة وبين عزة العبودية لله وذلة العبودية للغرائز والرغبات. وهو ممارسة واقية من كل إنحطاط خُلُقي, وضعف نفسي أمام مغريات الحياة المتنوعة وعالم إغوائها الواسع, ففي الرواية عن الإمام الصادق قال:قال: رسول الله: «الصوم جنة,أي ستر من آفات الدنيا,وحجاب من عذاب الآخرة فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطوات الشيطان,وأنزل نفسك منزلة المرض, لا تشتهي طعاماً ولا شراباً, متوقعاً في كل لحظة شفاك من مرض الذنوب,وطهر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة تقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله تعالى» . فالصيام لا يعدو أن يكون سلوكاً تربوياً, ذات منهج سليم ومتكامل, يهدف إلى خلق الإنسان المعتدل جسداُ وروحاً, يعطي لنفسه حقها, ولكنه في ذات الوقت لا يتركها تتجاوزه إلى غيره من حقوق الأفراد والجماعة. وتبرز لنا أيضاً بعض وجوه الحكمة الإلهية من فرض الصيام, متمثلة أساساً في دعم الوجود المادي والأخلاقي للإنسان وتدعيم كرامته في المجالين من حياته . فالإسلام كدين لم يتنزل من أجل الجانب المعنوي من وجود الإنسان وحسب, بل جاء أيضاً من أجل دعم الوجود الإنساني حتى بحيثياته المادية. فالإسلام يطلب من الإنسان أن يهتم بالجوانب الروحية والمعنوية، وكذلك يضع للإنسان برنامجاً متكاملاً فيما يخص ظاهره وجسده وصحته وعافيته وكل التفاصيل المادية من وجوده الدنيوي، فعن أمير المؤمنين قال: «لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام» . والصيام مع ذلك كله تربية على الصبر وتدريب على بناء مجتمع الحرب في مواجهة الطاغوت, إذ يمكّن الإنسان من إستلام ناصية التحكم في شهواته ورغباته, ويربيه جهاديا فيجعله قادراً على مواجهة الظروف الحيوية الصعبة , وخصوصاً إذا كانت تلك الظروف طارئة. فعن أبي الحسن في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]، قال: «الصبر الصوم إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم». والصوم أيضاً تربية على روح الإخاء على طريق بناء المجتمع الصالح, ذلك أن شعور المسلم بالمساواة مع غيره من أفراد المجتمع الإسلامي فيما يلاقيه من تعب ومعاناة, وما يشعر به من جوع وعطش وإرهاق, يجعله يتحسس مدى قوة الرابطة الأخوية, فتنعدم الفوارق الإجتماعية, والتفاوت الراجع إلى المال أو السلطة . وهكذا نقضي بالصوم على أهم ركائز مشكلة الصراع الطبقي في المجتمع. والصوم أيضاً تربية المسلم على الإنضباط لأوامر الشرع الحنيف وأحكامه المقدسة وعلى كمال المرؤة لتحصيل الهمة والقوة للقيام بمزيد من الأعمال العبادية الإلهية والأعمال الحيوية في الدنيا زراعةً وصناعةً وتجارةً وجهاداً وعلماً لبناء القوة والعزة في الشخصية الإسلامية الحية بعيداً عن مظاهر الضعف والتسول والكسل العملي والخمول الروحي والجسدي. ففي الرواية عن الإمام الصادق قال: «إياكم والكسل, إن ربكم رحيم يشكر القليل, إن الرجل ليصلي الركعتين تطوعاً يريد بهما وجه الله عز وجل فيدخله الله بهما الجنة وإنه ليتصدق تطوعاً يريد به وجه الله عز وجل فيدخله الله به الجنة, وإنه ليصوم اليوم تطوعاً يريد به وجه الله فيدخله الله به الجنة» . والآن ... فما هو السبيل إلى الإستفادة من الصوم في شهر تهذيب الروح والجسد وشهر المغفرة والرضوان؟. من المؤكد أن هذا السبيل هو الحمية الإلهية التي يعدّها الله سبحانه للإنسان، والتي عبّر عنها رسول الله بالورع عن محارم الله. إن الإنسان طوال أيام السنة قد عاش بنمط عشوائي بعيد عن معنى الورع والحماية، فكان طعامه وشرابه، سلوكه وأقواله، بل حتى تفكيره أيضاً، إما متمحضاً في النجاسة والحرام أو ممزوجاً بهما إلى درجة لا ينفك عنهما، فهو قد إعتاد على الأخلاق الذميمة وسوء الأفعال من السرقة والإحتيال والرشوة والإختلاس والغيبة والبهتان والكذب والإفتراء والثرثرة والإسراف وغير ذلك .. وبصورة موجزة فإن ظاهر الإنسان وباطنه قد أصيبا بالخبث والرجس واحتجب نور الإنسانية وطهارة الإيمان خلف جدران الشهوة ورين المكتسبات، ولذلك فهو بحاجة إلى حمية كاملة وعلاج قويم. ولقد تلطف الباري الحكيم عز وجل رحمةً وإحساناً منه على عبده فأوجب عليه صيام شهر رمضان، وأمره في هذا الشهر بالحمية والإمتناع عن مجموعة من الأفعال والأشياء. إنه ينهى البطن عن الحرام، وعن الإسراف في الطعام كما ينهى العين عن الخيانة، والنطق والسمع عن الغيبة، وألحان الفسوق وقول الزور، وينهى اليد عن الظلم والإعتداء، وهو يحجز القلب والعقل عن الخوض في الأفكار الخبيثة، ويصنع نفساً عارفة قريبة من المنهج الكبريائي للحقيقة الإلهية المقدسة من طريق هذه الرياضة الروحية خلال شهر كامل فيتمكن الإنسان من الرقي إلى أوج الإنسانية منفصلاً عن أرض الوساوس والهواجس والقلق والإضطراب إلى حيث الإطمئنان والرضا. وإن الطبيب الحاذق يهتم قبل وصف الدواء أو الطعام المناسب للمريض، بمنعه عن الأطعمة المضرة والأعمال التي قد تؤخر الشفاء، وكذلك الحال فيما يخص مرض الإرتكاس في الحيوانية والإنشغال في الجنبة البهيمية من تكوين الإنسان والذي يهدد سيرته الإنسانية نحو التكامل، فمن الواجب في المرحلة الأولى أن يتجنب خصائص البهائم ثم يتحلى بالأخلاق الفاضلة التي هي بمنزلة الأدوية المفيدة لعلاجه. وهكذا تبرز فيه العفة والأمانة، والإرادة والعزم، والكرم والسخاء والصبر والحياء، ومواساة البؤساء والمساكين وإيثارهم على نفسه، وكل ذلك من النتائج القطعية للصوم. وهذه هي الخطوات الأولى للعبادة، والتوجه إلى المحبوب، والإشتغال بذكره وتلاوة القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، [الإسراء: 82] . وهكذا يتكامل الإنسان تدريجياً، حتى إذا تمكن من حقيقة الصوم فإنه يشرف في أواخر شهر رمضان من خلال نافذة الملك على عالم الملكوت الرحب، ويرتقي من حضيض الناسوت محلقاً نحو مقام الجبروت وهو طريق السعادة. أما الشقي فهو الذي أسدلت الشهوات حجاباً غليظاً على عينيه، فلم يدرك هذا العلاج القطعي، فراح يرجّح السلوك الحيواني على المنهج الإنساني، ولم يكتف بذلك بل ساقه الجهل والغرور إلى الإستهزاء بالصائمين والمصلين والتالين لكتاب الله. ومن المؤسف أن أمثال هؤلاء لا يكتفون بجهلهم وغفلتهم عن حقائق الإيمان وحرمانهم من مزايا الحياة الحرة والشريفة، بل إنهم لا يريدون الإنفتاح على الحقائق ولا يريدون الإنتباه من سبات الغفلة. وأشد بؤساً من هؤلاء، أولئك الصائمون الذين يتحملون عناء الجوع والعطش في أيام شهر رمضان ولا يجنون من صومهم أية فائدة، وذلك لأنهم: أولاً: هم غافلون عن الفوائد الخلقية والأثار المعنوية للصيام، وحتى لو كانوا يعلمون بتلك الفوائد فإنهم لا يعملون بعلمهم. ثانياً: إنهم حيث يملأون بطونهم ويحمّلون أمعاءهم فوق الطاقة عند السحور ووقت الإفطار وطوال الليل، فإنهم يفسدون أعضاء البدن ويهدمون بناء الجسد وهو عكس ما كان يريده الدين الذي جعل شعاره «صوموا تصحوا» .