شاء الله تعالى أن يكون للإنسان محطة سامية في عمر الزمن تتجدد في كل عامٍ مرة وهي شهر رمضان المبارك . هذا الشهر العظيم خصه الله تعالى بمساحة كبيرة من رحمته ليكون فرصة لتزكية النفس وتطهيرها من أوحال الذنوب والمعاصي وليشكل مدرسة يتعلم فيها الصائم القيم الإنسانية النبيلة التي تساعد على إرساء العدالة والمساواة وتنشر الأخلاق الحسنة بين الناس وتحرك فيهم الشعور والإحساس تجاه الفقراء والمحرومين وتحملهم المسؤولية تجاه المظلومين والمضطهدين . إن خصائص هذا الشهر المبارك تدعونا لأن نعكس طقوسه على حياتنا الخاصة والعامة وعلى مسلكياتنا لنحقق الغاية من العبادة التي أرادها الله تعالى مهذبة للنفس مصححة للسلوك مقومة للإعوجاج وهذه الغاية للعبادة تبدو واضحة في كلام القرآن وهو يحدثنا عن فريضة الصلاة حيث يقول تعالى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وإذا لاحظنا البعد الحقيقي لأي نوعٍ من أنواع العبادة فإننا نجده يهدف لجانب سلوكي مهمٍ في حياة البشر فالصلاة التي طلبها الله منا هي الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ونفس الشيء بالنسبة للصوم فإنها عبادة تهدف الى ما فيه نفع الإنسان في الدنيا والآخرة ولكي نطلع على ما في شهر رمضان من عظمة ورحمة وتعليم وتوجيه نستعرض أهم ما جاء في خطبة النبي محمد (ص) بمناسبة استقباله شهر رمضان المبارك . الفائدة الأولى التي يذكرها النبي (ص) هي سعة رحمة الله تعالى في شهر رمضان فيقول : أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ . شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ . هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ . أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ . وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ . نلاحظ في هذا التوجيه إرشاداً إلى المبادرة للإستفادة من هذه الفرصة التي منح الله تبارك وتعالى فيها عباده أضعافاً مضاعفة من الأجر والثواب على أعمالهم التي يتقربون فيها إليه بنيات صادقة وقلوب طاهرة وهذه النقطة تقع بغاية الأهمية لأنها تلقي الضوء على نوع العمل العبادي الذي يجب أن ينبثق عن الصدق والطهارة وكأنه يدعونا إلى غسل نفوسنا من أوساخ الكذب والنفاق وكَدَرِ الظلم والعدوان وقذارة الغيبة والنميمة وخبث السريرة والجشع والطمع القائدان إلى الحسد والفتنة والتسلط والقتل ... فكيف يمكن لمن تلوثت نفسه بتلك المعاصي والذنوب أن يمسك بكتاب الله ويتلو آياته وكيف يمكن له أن يقف بين يدي من عصاه ويطلب منه ما لا يقدر غيره عليه ؟! النقطة الثانية المستفادة من توجيه رسول الله (ص) يتحدث فيها عن أهمية التكافل الإجتماعي والشعور بالمسؤولية تجاه أهل الفقر والعوز وفي هذه الدعوة تحريك للعصب الإنساني ليتفاعل الصائم مع أبناء مجتمعه بالمحبة والرحمة ومد يد العون بما يقدر عليه ولو كان بمقدار شربة ماء أو شق تمرة فيقول : وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ .... وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ ... أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ رقبة ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ - صلى الله عليه وآله - : اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ ... وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ ... النقطة الثالثة يتحدث النبي (ص) عن أهمية صلة الرحم واحترام الصغير وتوقير الكبير وحسن الخلق فيوجه الصائم نحو مجتمه العائلي فيدعوه للتواصل مع ارحامه ونبذ الفرقة والخلافات وزع الإلفة والود لينطلق من هذه الدائرة إلى المجتمع الأكبر فيجسد هناك هذه القيم والمبادىء مع بني جنسه فيقول : وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ .. ثانياً يدعو النبي (ص) الصائمين إلى احترام الكبير للصغير وتوقير الصغير للكبير وإلى تحرير الأنفس من الطبائع السيئة في القول والعمل ، ونشر الخلق الحسن وفي ذلك تطبيق لأهم أهداف الرسالة الإسلامية حيث يقول النبي (ص) : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق . ولأن هذا الجانب له أهمية كبرى في حياة الناس ركز القرآن الكريم عليه فقال تعالى حاكياً عن نبيه محمد (ص) : وإنك لعلى خلق عظيم . من هنا جاءت هذه الدعوة النبوية لترسخ هذا السلوك إنطلاقاً من حركة مجاهدة النفس في أيام الصوم فقال (ص) : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَاز عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ ... وبعد استعراض هذه النقاط المهمة من خطبة النبي (ص) التي يوجهنا من خلالها إلى بناء أنفسنا ومجتمعاتنا على الخير والعمل الصالح يحدثنا عن عظمة الرحمة الإلهية التي أغدق بها الله تعالى على عباده الذين أحسنوا عبادته وتمكنوا من تجسيد تلك القيم التي تقدم الحديث عنها أن بإمكان هؤلأ أن يتزودوا من سعة رحمة الله في ليلة القدر التي جعلها خيراً من ألف شهر وفي كل ساعات ليالي وأيام هذا الشهر الشريف الذي استضافنا الله فيه على مائدة رحمته فيقول (ص) : َمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ، وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ، ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ، وَمَنْ تَلا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ . أَيُّهَا النَّاسُ ! إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ . فريضة الصوم إذاً هي عبادة هادفة لبناء مجتمع إنساني وفق معايير العدالة والمساواة والقيم النبيلة والأخلاق الحسنة وهذا ما جسده المسلمون الأوائل في عهد رسول المحبة محمد (ص) . لقد كان شهر رمضان في تلك الحقبة من الزمن محطة من محطات الجهاد والتضحية الرسالية ، صام المسلمون وهم يدافعون عن بلادهم ورسالتهم ويطبقون تلك التعاليم على أنفسهم وفي مجتمهم بعد أن فهموا الصوم على أنه معركة حقيقية مع النفس التي إن انتصر الإنسان عليها كان في الإنتصار على غيرها أقدر وفق ما جاء في قول الإمام علي (ع) : ميدانكم الأول أنفسكم فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر فجربوا معها الكفاح . وقبل أن أختم مقالي أنبه إلى مسألة مهمة وهي أن الدعوة لتجسيد هذه المسلكية العظيمة في شهر رمضان المبارك هل تسقط في غيره من الشهور ؟ وهل المحرمات التي نهى النبي (ص) عنها تصبح مباحة في غيره من الشهور ؟ والجواب : أبداً لا يتبدل في غير شهر رمضان شيء على مستوى وجوب الإلتزام بالفضائل واجتناب الرذائل وما اعتدنا عليه في هذا الشهر الفضيل يجب أن يلازمنا في كل الأيام والشهور فشهر رمضان هو بمثابة مدرسة أتاح الله تعالى لنا فيها تأهيل أنفسنا وتحسين مسلكياتنا لنتخرج منها عباداً صالحين كما أرادنا الله أن نكون . وفقنا الله وإياكم لخير القول والعمل بأحسنه وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والحمد لله رب العالمين.
حديث الصوم : الصوم الهادف
حديث الصوم : الصوم الهادفالشيخ حسين عليان
NewLebanon
مصدر:
لبنان الجديد
|
عدد القراء:
496
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro