تحتلّ الأذكار والدعوات والصلوات والعبادات والزيارات والآداب و... مركزاً هاماً في شخصية الإنسان المسلم والمتديّن، ولا يقتصر هذا التأثير على الواجب من هذه الأعمال، بل يمتدّ ليشمل المستحب أيضاً، فإن الكثير من المستحبات والمكروهات تترك أثراً على تكوين وعي الإنسان وشخصيته وطريقة تفكيره.
وفي إطار رصد أهمية المستحب ومكانته في الحياة الدينية، نلاحظ تأثير زيارة المراقد المطهّرة على شخصية الإنسان الصالح، وما تتركه من تعميق لروابط الحبّ والولاء لأهل البيت^ في حياته، وما ترسّخه في نفسه من قيم الفضيلة والتضحية والوفاء و... بعيداً ـ فعلاً ـ عن القول الذي ذهب إليه بعض العلماء والمحدّثين من وجوب الزيارة ولو مرّة واحدة في العمر.
وأمام حجم تأثير المستحب والمندوب والمكروه والمرغوب عنه في حياة المسلم، نجد اتجاهاً كبيراً في الأوساط الدينية يميل إلى عدم أهمية البحث والوقوف كثيراً عند المستحب والمكروه، حتى أنّ العلامة محمد مهدي شمس الدين ينقل عن أستاذه السيد الخوئي أنّه لا يجب على الفقيه تبيين قضايا المستحب والمكروه والمباح (شمس الدين، الاجتهاد والتجديد: 153)، هذا مع أنّ السيد الخوئي رافضٌ لنظرية التسامح، ولعلّ لهذه النظرية تأثيراً كبيراً على هذه النزعة التساهلية عند العلماء المسلمين، حيث قبل بها الكثير من علماء السنّة والشيعة، انطلاقاً من وجود أدلّة من الروايات عليها.
ولسنا بصدد الحديث عن هذه القاعدة وكيف تطوّرت واتسعت، لتشمل عند مثل النراقي و... القضايا التاريخية وتستوعب السيرة الحسينية، الأمر الذي انتقد بعض أبعاده المحدث النوري، وهو وجهٌ من وجوه المحدثين المتأخرين (انظر: حيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 748 ـ 763)، إنما الذي نريد تسليط الضوء عليه هنا هو معالجة اجتماعية لهذه الظاهرة التي بات لها حضور بارز في حياتنا.
ولن آخذ مطلق المستحبات والمكروهات هنا بالحسبان، بل سأسلّط الضوء على الأدعية والزيارات والصلوات والأذكار... منطلقاً من مشروع كان يحضّر من طرف السيد الشهيد محمد باقر الصدر (1400هـ)، بوصفه من كبار رموز الإصلاح الديني في القرن العشرين، ففي رسالةٍ وجّهها الصدر إلى تلميذه المعاصر السيد محمد الغروي، بدا فيها راغباً ـ بل ساعياً ـ لتدوين كتاب في الأدعية والزيارات بدل كتاب مفاتيح الجنان للمحدّث الشيخ عباس القمي (1359هـ)، يتجاوز ما يثير المسلمين، ويركز على النصوص الصحيحة السند، والمشهورة الصحيحة المتن.
يقول الإمام محمد باقر الصدر في هذه الرسالة: «... كان لدينا مشروع كلّفنا به بعض تلامذتنا، وهو كتاب تأسيسي في الأدعية، فإن تهيأ ذلك فهو، وإلا فلابد في نظري من إدخال تعديلات على المفاتيح [يقصد ـ حسب الظاهر ـ مفاتيح الجنان] الموجودة، وكانت الفكرة في الكتاب التأسيسي تقوم على أساس جمع ما صحّ سنده من الأدعية والزيارات، ويضاف إليه المشهور الصحيح المتن، وإن لم يكن صحيح السند، مع إجراء التهذيب بحذف بعض الجمل إذا اقتضى الأمر التهذيب والحذف» (انظر: أرشيف رسائل المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، رسالة خطية رقم: 60).
وإذا أردنا تحليل هذا النصّ فهو يدلّنا:
أولاً: إن فكرة تعديل مفاتيح الجنان هي البديل الاضطراري الذي اختاره السيد الصدر، وإلا فأصل المشروع هو استبدال المفاتيح بكتاب آخر، وصفه الصدر بالتأسيسي، وهي عبارة دالّة على مشروع جذري كان منويّاً، ومن ثم فلا يرى الصدر أن في استبدال المفاتيح أمراً محرّماً، لا من الناحية الفقهية كما هو واضح، ولا من الناحية الميدانية والاجتماعية والعملية، فلا ينبغي التحسّس من أصل المشروع، فالمفاتيح ليس نصاً نهائياً وإنما هو محاولة طيبة قام بها العلامة القمي خدمةً لقيم السماء وتعاليم الإسلام فجزاه الله خير جزاء المحسنين، لكن لا ينبغي الوقوف عندها. سيما وأنّ في الكتاب نفسه في كثير من نسخه المطبوعة اليوم بعض المشاكل، كما في بعض هوامشه؛ حيث يستفاد ـ ولو في الفهم العام ـ تحريف القرآن.
كما لا يُقصد الطعن بالشيخ القمي الذي عرفناه محققاً ناقداً في مجال الحديث والتاريخ في مواضع أخرى، خاطياً في ذلك خُطى أستاذه المحدّث الشيخ حسين النوري (1320هـ)، لكنّ القمي مجتهدٌ له آراؤه، ومن غير المعلوم أنّ ما صحّ سنده عنده معناه أنّه صحيح السند عند غيره، أو أنّه ملزم لغيره، فهذه اجتهادات لا تقف عند حدّ، ولعلّه يكتفي بوجود سند للرواية في مقابل كتاب «مفتاح الجنان» الذي أشار في مقدّمة «مفاتيح الجنان» إلى ورود بعض ما فيه مما ليس له سند أصلاً.
ثانياً: كان يرى السيد الصدر اضطراراً تعديل نسخة المفاتيح الموجودة، ونحن لا نوافقه ـ في نظرنا القاصر ـ على هذه الفكرة؛ لأن الدخول في تعديل الكتب الدينية والتراثية لمصالح ولو كانت هي مصلحة المسلمين العليا أمرٌ خطير للغاية، وباب إذا فُتح سوف يؤدّي إلى فوضى علمية وإلى أزمة في توثيق التراث، فقد نُقل أنّ السيد الصدر نفسه كان قد كلّف بعضَ طلابه بتحقيق كتاب المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين؛ لأنّ أهل السنّة كانوا غيّروا في الطبعة المتأخرة لبعض كتبهم الأصلية الحديثيّة التي استند إليها السيد شرف الدين، ولعلّه اعتبر ذلك خيانةً لمصالح مذهبية ضيقة، فكما هي خيانةٌ أن نخفي الواقع لمصالح مذهبية، كذلك الحال في إخفاء وقائع أو وثائق أو نصوص أو... لمصالح إسلامية عليا أو.. ولنسمّها ما شئنا، فإن ذلك لن يغيّر من واقع الحال شيئاً؛ لأننا حتى لو استفدنا منه لمرحلة الآن أو لاحقاً، إلا أنه سيترك تأثيراً سلبياً على المسار البعيد والطويل، ولو استخدم كلّ فريق هذه الطريقة لدخلنا في متاهة التلاعب بالتراث، وهو أمرٌ نتأكد أنّ السيد الصدر لم يكن يقصده في مشروعه هذا.
فالأفضل ـ من وجهة نظرنا ـ إذا كان لابدّ من مشروع كهذا، أن يكون تأسيسياً أو لا يكون من أصل؛ جمعاً بين الأهداف وتوفيقاً بين المقاصد.
ثالثاً: يقدّم السيد الصدر أولويّتين مترتّبتين في التعامل مع الكتاب التأسيسي: إحداهما الأخذ بما صحّ سنده من الأدعية والزيارة، وثانيهما الصحيح المتن مع كونه مشهوراً، ولست أريد هنا محاكمة رسالة شخصية على أنها بحث علمي، لكن لا بأس بقدرٍ من التحليل؛ كونها دالّة بنسبة جيدة، فالسيد الصدر قدّم الصحيح السند دون أن يشير إلى صحّة المتن فيه، وإنما أخذ صحّة المتن في حالة المشهور غير الصحيح السند، مع أنه قد يرى بعضهم أن فيما هو صحيح السند مخالفاً متناً للكتاب أو السنّة أو... فكان ينبغي أن يؤخذ التقييم ثنائياً، أي صحيح السند والمتن معاً، سيما وأنه في الأدعية والزيارات يوجد جُمل خبرية كثيرة، وليس فقط إنشائية، ونحن نعرف أنه كلّما زادت الجمل الخبرية انفتح مجال تقييم المتن بشكل أكبر؛ لأن الإنشاء يشمل ـ عادةً ـ التشريعَ الذي لا يُعرف ملاكه؛ فمجال نقد المتن فيه أقلّ نسبياً.
يُضاف إلى ذلك، أن إجراء الحذف والتهذيب للجمل التي في نصوص الأدعية والزيارات فيه مشكلة تقدّمت، إذا قصد السيد الشهيد خصوص المشهور الصحيح المتن، أما إذا كان هذا القيد شاملاً للصحيح السند أيضاً، فالمشكلة سوف تتضاعف حينئذٍ؛ لأنّ في ذلك ما قد يكون إيهاماً في نقل كلام المعصوم المعتبر.
إنّ أصل مشروع السيد الشهيد بالغ الأهمية، ينطلق من ضرورة ضبط الكتب الدينية التي تكون في متناول عامة الناس وفي بيوتهم وفي المساجد والحسينيات و... كونها تشكّل الوعي الديني عندهم، وإذا كان السيد الصدر قد انتبه لهذا الموضوع، ونوى مشروعاً من هذا النوع، فإنّ السيد محسن الأمين (1952م) قَبْلَه قد حمل هذا الهمّ وخاض مشروعاً شبيهاً في كتابه (مفتاح الجنات)، الذي ركّز فيه على صحّة السند والمتن معاً، ومع عدم وجود سند صحيح كان مهتمّاً بالمتن وضبطه جداً، وقد اعتقد بأنّ هناك تحريفات وتصحيفات في أكثر كتب الأدعية، كما انتقد (مفاتيح الجنان) من وجهة نظر أخرى؛ حيث رأى أن بعض محتوياته لا يكاد ينفع الإنسان العربي، دون أن يدلّنا بوضوح على حجم هذه المواضع، وهل فعلاً تستحقّ الذكر أم لا؟ وقد أشار أيضاً إلى جهالة السند في روايات أخرى في المفاتيح (انظر: محسن الأمين، مفتاح الجنات 1: 11، 312، 322، 333، و 2: 449)، ونضيف معه أن التتبع أكّد لنا أنّ النسخة المعرّبة لمفاتيح الجنان فيها مشاكل أيضاً في التعريب، مما لا نخوض فيه فعلاً.
إنّ ما قام به السيد محسن الأمين في مجال الأدعية والزيارات من تقديم بدائل كان فعله أيضاً في مجال إصلاح حال السيرة الحسينية، حيث ألّف أكثر من كتاب بهذا الصدد، بدائل لقارئ العزاء والخطيب الحسيني كي يتمكّن من الاستمرار مستغنياً عن كتب أخرى ثمّة تساؤلات كثيرة حولها وعلامات استفهام.
وبكلمة موجزة وهامة: ليس المهم أن يجلس بعضنا ينتقد هذا الدعاء أو ذاك، أو هذه الزيارة أو تلك... فيُغرق الجوَّ في مجرد النقد، بقدر ما المطلوب تخطّي هذه المرحلة لوضع كتاب جامع في الأدعية والزيارات، يتمّ نشره على نطاق واسع، مصفّى من الملاحظات النقدية على مختلف الصعد حسب الإمكان، ليكون مرجعاً للمسلم والشيعي في أعماله العبادية، مع تقدير جهود السابقين كلّهم واحترام خطواتهم.
وأخيراً، وفي السياق عينه, وهو الذي نعتقد أن الصدر والأمين حملا همّه، من الضروري أن يُلتفت إلى مبدأ الوحدة الإسلامية ومصالح المسلمين العليا في هذا العصر، مع الانتباه ـ في الوقت عينه ـ إلى عدم إطلاق العنان لأنفسنا في التلاعب بالتراث أو تحوير الحقائق الإسلامية؛ فلا يصحّ أن نضع الأمّة الإسلامية وواقع المسلمين في أزمة لأجل رواية ضعيفة السند، ثمّ نبرّر فعلنا بالحفاظ على هويّة المذهب وحمايته من تهاوي أركانه وفرط عقد سبحته، بل ينبغي الالتفات إلى أنّ الواجب قد يصير حراماً بالعنوان الثانوي، فكيف بالمستحب؟! ألا يجب بناء توازن وسلّم أولويات؟ بل ألا يجب تنشيط فقه الأولويات أيضاً؟ ألا يجب حماية دم المسلمين من الفتنة؟ ألا يحتمل أحياناً أن بعض المستحبات قد تهدر دم مسلم بريء؟ فإذا كنّا نخاف على دين الناس، فحريّ بنا أن نخاف على نفوسهم وأعراضهم؛ فحرمة المسلم كحرمة الكعبة، كما جاء في بعض الروايات؟
إنّ على المدافعين عن مثل هذه الرواية أو تلك مما ثبت ضعفه وبان أنّه ليس له سوى بعض المصادر المتأخرة .. إنّ عليهم أن يعرفوا أنّ ما عندنا من كتاب ومن سنّة يكفيان لملئ نفوسنا إيماناً، وقلوبنا طمأنينة، وحياتنا نظاماً وانتظاماً.. ولم يغدُ الإسلام ولا التشيّع ـ والحمد لله ـ بحاجة في يوم من الأيام إلى مثل هذه الزيادات، فهو غنيّ بما فيه الكفاية للنهوض بنا، إن شاء الله تعالى.
إننا من منطلق مشروع السيد الصدر وغيره، ومن منطلق الضرورة والحاجة والأمانة العلمية و... ندعوا ـ بوصفنا من آحاد المسلمين ـ ونرجوا من المرجعيات الدينية المنفتحة على قضايا العصر والأمّة والدين، رجاءً حاراً نابعاً من قلب متألّم، أن يشكّلوا لجنةً تحت إشرافهم، تقوم بمشروعٍ كهذا، كيفما ارتؤوا صيغته فيما يرونه مناسباً، ويدعموه ويروّجوا له؛ فليس المهم هو الإنتاج والمهارة فحسب، بل المهم هو التسويق والترويج، كما بات مسلّماً اليوم في إدارة الصراعات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية و... ونحن واثقون ـ إن شاء الله ـ من أنّ خطوةً كهذه ستشكّل عنصراً مساعداً لحماية شخصية الإنسان المسلم اليوم، ورفع مستوى وعيه وتضامنه مع أخيه، وتحصين الساحة الإسلامية، بدل خلط الأدعية بالطلاسم في بعض الكتب، وبالغرائب والعجائب في كتب أخرى، والله تعالى وحده نسأل تغيير حالنا إلى أحسن الحال، إنه عليٌّ قدير.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة : 186].