أذكر أن المرجع السيد محمد حسين فضل الله كان يكرر في دروسه الفقهية، قول المرجع البروجردي، الذي كان أستاذ المرجع الخميني، بأن الفقه الشيعي هوامش على الفقه السني. وهي مقولة لا تنتقص من قيمة المذهب الشيعي العلمية، بقدر ما تُعبِّر عن الأصول العلمية لهذا المذهب، والفضاء العام الذي أخذ يبني داخل مجاله، مقولاته ومواقفه واختلافه وانحيازاته وتمايزاته، والتي ما كانت جميعها لتكون أو تحصل خارج هذا الفضاء، بل كانت لتأخذ منطقاً آخر، وبنية مغايرة بالكامل لما هي عليه الآن لو نشأت في فضاء مغاير.

عبارة «الفقه الشيعي هوامش على الفقه السني»، تعني أن الفقه الشيعي الذي هو الهامش، يتقوم بالفقه السني الذي هو المتن، ولا يمكن للهامش أن تكون له حقيقة مستقلة أو منفصلة عن المتن. وبقدر ما يكون في الهامش تمايزاً عن المتن، أو مسعى لتفكيك ادعاءات المشروعية فيه، أو نسف لعلموية مبانيه، فإن هذا الهامش يبقى تابعاً في أصل مادته العلمية للمتن، ومحكوماً لسياقه وبنيته وحركة اتصاله وانقطاعه، ولعبة الفصل والوصل فيه، واستراتيجية المعنى ومنطق المشروعية المتبعة فيه، ما يجعل المتن بمثابة البنى التحتية والأساس لكل ما يدلي به الهامش، بحيث لا يمكن التقاط دلالة هذا الهامش وفهم مقصده، إلا بالكشف عن المجال الذي نشأ فيه ونمت مقولاته بداخله. فالمتن أصل والهامش فرع، ومهما تعالى الفرع على أصله، أو بالغ في إظهار تمايزه وخصوصيته، وأوهم نفسه أو غيره، باستقلاليته وانفصاله عن أصله، فإن الحقيقة التاريخية تؤكد أن المذهب الإمامي، في مضمونه الكلامي والفقهي، ما كان ليتخذ تكويناً علمياً، قائماً على صناعة التفريع والتدقيق والاستنباط، إلا حين انخرط في الجدال العقلي-الديني الدائر في بغداد في أوائل القرن الخامس بين المذاهب ذات الطابع السني، وعمد إلى اعتماد العناوين والمقولات والمنهجيات والمسائل وفنون التفريع والتدقيق السائدة، داخل مصنفاته، لغرض انتزاع الاعتراف به، واكتساب النسق العلمي السائد في فهم أصوله وإنتاج فروعه.

ويمكن القول أن مسار التكوين العلمي للمذهب الإمامي، مر بمراحل ثلاث:

أولها تلقي قول الإمام «المعصوم» مباشرة أو نقلاً، وهو تلق يقوم على الذاكرة والتداول الشفاهي، ويعتبر الإمام مصدراً معصوماً عن الخطأ في نقل أو تفسير المضامين الدينية. وضعية التلقي هذه فرضت حصر القول الديني بالإمام، الذي يختلط قوله مع قول النبي، وصيرورتهما قولاً واحداً معصوماً، ما يحول دون قيام نشاط علمي أو اجتهادي بين أتباع الإمام، لتحديد الوظيفة أو الموقف الشرعي، مع استثناء حالات جزئية ومحدودة اقتصرت على المحاججة لا الاجتهاد، وتنفي الحاجة إلى بناء آليات ومبان اجتهادية قادرة على توليد واستنباط معان وتصورات جديدة، بحكم أن النبع الأساس واليقيني للمعرفة الدينية حاضر ويرفد الشيعة كل ما يحتاجون إليه.

ثانيها: تدوين ما جاء عن الأئمة بعد رحيلهم، ووضعها في مصنفات عدة، وهي مرحلة اتسمت بداياتها الأولى، خصوصاً في قم، بالندرة، والتدوين المفتقد للتصنيف المنهجي، والخالي من التدقيق في صحة الرواية أو الوثوق بالراوي، مع تضمن بعضها مضامين تغالي في شخص الأئمة ومكانتهم وقدراتهم الجسدية والذهنية. ثم أخذت هذه المرحلة تنضج مع مصنف «الكافي» للكليني، ومصنف «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق. لتتخذ المصنفات الحديثية شكلاً منتظماً وممنهجاً، يماثل التصنيف والتبويب المتبع في المصنفات الحديثية السنية، مثل مصنفات البخاري ومسلم، ويبدأ معها تدقيق أولي وسطحي بعض الشيء في حال الرواة، لجهة الوثاقة وعدمها، بحكم أن علم الرجال ومناهج التعديل والتجريح لم يندرجا داخل منظومة التفكير الإمامي إلا مع كتابي الفهرست والرجال للشيخ محمد الطوسي، ومن بعده كتاب الرجال للنجاشي.

ثالثها: التأسيس العلمي للمذهب القائم على قواعد استنباط وآليات اجتهاد وصناعة تفريع وتدقيق، وهي مرحلة بدأت في مطلع القرن الخامس هجري.

المرحلتان السابقتان مثلتا تكويناً مغلقاً للمذهب الإمامي، انحصر بحفظ المذهب واستمراريته، مع خلوه من قواعد ومبان اجتهادية، بحكم اقتصاره على تداول ورواية قول وموقف الإمام «المعصوم»، مع اعتقاد جازم بأن إرث الأئمة المروي، يغطى مساحة واسعة من موارد الابتلاء، لا حاجة معها إلى الاجتهاد في داخلها.

كان الشيعة الإمامية يتعبدون بقول الإمام «المعصوم»، ويتناقلونه ويتداولونه بصفته قولاً مطابقاً لمراد الله وكاشفاً عنه كشفاً كاملاً. ومع وفرة عدد الأحاديث وكثرتها، وثبات واستقرار الوضع السياسي وجمود نسبي في نمط الحياة، ومع انكفاء الشيعة عن الموضوع السياسي، الذي رسخ في ذهنهم أنه من مختصات الإمام الغائب، كانت الرواية المروية عن الإمام كافية وكفيلة بتغطية جميع ما يحتاج إليه الشيعة في أمورهم، ما جعل دور الفقيه يقتصر على تبويب الأحاديث، وتصنيفها، مع تغيير طفيف في لفظها ليسهل تداولها وتناقلها، وفهمها من قبل الناس كافة.

كان هذا سمة الأعمال الفقهية المبكرة. فتجد الشيخ الصدوق يصرح في مقدمة كتاب «المقنع» في أواخر القرن الرابع الهجري، بأن كل عبارات الكتاب ألفاظ للأحاديث المسندة، مع حذف إسنادها روماً للاختصار وثقة بوجودها في أمهات الأصول وكتب الأحاديث. كذلك يظهر من كتاب «المقنعة» للشيخ المفيد (أواخر القرن الرابع)، الذي كان أول مصنف فقهي كامل لدى الإمامية الشيعة، ويتبين فيه أنه كان مجرد عرض لأقوال الأئمة ومواقفهم في المسائل المتعددة. هذا السلوك استمر حتى زمن الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري. فتراه يكشف في كتاب «المبسوط» عن إعراض الطائفة عن تأليف كتب اجتهادية أو استدلالية، يقول الطوسي: «قلة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به، لأنهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتى أن مسألة لو غير لفظها وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد، لعجبوا منها وقصروا فهمهم عنها». كل ذلك يؤكد أن الفقه الشيعي ظل حتى بدايات القرن الخامس الهجري، داخل دائرة مغلقة تقتصر على التداول الخاص بين أبناء الطائفة لأقوال وروايات الأئمة، من دون أن يكون هنالك نشاط استنباطي، لعدم الحاجة إلى ذلك من جهة، ولغياب العلوم الضرورية والمطلوبة لممارسة الفعل الاجتهادي داخل المذهب، والذي عبر عنه الشيخ الطوسي حينها، بالتفريع على الأصل، أي استنباط حكم من الأصول المقررة عند المسلمين.

إلا جملة أمور ساعدت المذهب الإمامي، لأن ينتقل من بنية روائية وتداولية صرف، أي تعبد روائي، إلى مجال الاجتهاد الفقهي والنظر الكلامي:

أولها السلطة البويهية، التي تسلمت السلطة، ولم تلغ الخلافة، ما يعني أنها أبقت الخلافة ذات الرمزية السنية، ولم تتعرض للمرجعيات الفقهية والكلامية ذات الارتكاز السني، الأشعري والمعتزلي وفقه المذاهب الأربعة، وعمدت في الوقت نفسه، وبحكم ميلها الإمامي، إلى تعويم المذهب الإمامي، لا بفرضه أو إرغام المسلمين على الامتثال له أو التعبد به، بل لإسباغ مشروعية دينية عليه، وإظهار معقوليته وعقلانيته، أو علمويته. وهذا يظهر من استدعاء الأمير البويهي الشيخ الصدوق لتوضيح مسائل المذهب ومحاججة علماء السنة في مجلسه، ويظهر أيضاً من المفيد والشريف المرتضى في تأليف كتب فقهية وكلامية، استجابة لطلب الأمراء البويهيين. يقول المفيد في مقدمة «المقنعة»: «إني ممتثل لما رسمه السيد الأمير الجليل من جمع مختصر في الأحكام»، ويقول الشريف المرتضى في مقدمة كتاب «الإنتصار»: «إني ممتثل لما رسمته الحضرة السامية الوزيرية العميدية من بيان المسائل الفقهية المشنع بها على الشيعة..». ما يدل على أن فقهاء الشيعة استفادوا كثيراً من موارد السلطة في تأسيس مذهبهم ونشره وتعميمه، وأن البويهيين أسبغوا اعترافاً رسمياً بالمذهب الإمامي، بأن يكون مذهب السلطة القائمة، لكن لا بإلغاء باقي المذاهب وقمعها، بل بإضافته إلى فضاء التداول الفقهي والكلامي الموجود في بغداد، الذي يغلب عليه الطابع السني.

ثانيها: أن بغداد كانت الحاضن الرئيسي لجميع المذاهب والاتجاهات الفكرية في الإسلام، من فلسفة وعلم كلام وأدب وفقه وعلم رجال وأصول فقه وغيرها، ما جعل بغداد عاصمة علمية، مثلما كانت عاصمة سياسية-رمزية للخلافة، وقبلة ومنطلقاً لجميع المشروعات الفكرية والـدينية آنذاك. هذا يعني أن مشروعية أي كيان فكري أو مذهبي، متوقفة على الاعتراف به في دوائر المباحثة العلمية والمصنفات الموسوعية وحلقات المساجلة المذهبية، التي وصلت جميعها في بغداد إلى ذروة حيويتها وتوقدها.

بدا هذا واضحاً في مساعي رموز المذهب الإمامي، الذين استشعروا أن تمركز المذهب في قم، سيبقيه خارج التداول العلمي العام، ويقصيه من دائرة الاعتراف، ويحرمه من المناخ المعرفي المتقدم القائم في بغداد. ما دفع وجهاء علماء الإمامية في مطلع القرن الرابع هجري، إلى التمركز في بغداد، وتحويلها إلى عاصمة علمية للإمامية. فتجد محمد بن بابويه القمي الملقب بالصدوق، ينتقل في مرحلة من حياته من قم إلى بغداد، وتجد الشيخ محمد الطوسي ينتقل من طوس في إيران، ليستقر في بغداد أيضاً. كما أن الشيخ المفيد والشريف المرتضى، المتواجدان في بغداد، سعيا إلى جعل بغداد عاصمة علمية للمذهب الإمامي. فكان كل من الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي، الذين استقروا جميعاً في بغداد، النواة الأساسية في تأسيس المذهب الإمامي على قاعدة علمية.

كان أداء علماء الإمامية في بغداد، يهدف إلى تحقيق الأمور التالية:

أولها: وضع المذهب الإمامي موضع التداول العام، وهو ما ساعدت السلطة البويهية على تأمينه، ويظهر ذلك في مقدمة المؤلفات الإمامية، كما في مقدمة «المقنعة» للشيخ المفيد، ومقدمة كتاب «الانتصار» للسيد المرتضى، وهي مصنفات قدمت نفسها بصفتها مؤلفات لجميع المسلمين، لا لملة خاصة، فعمدت إلى عرض مواقف المذهب ومبادئه وأحكامه بطريقة مألوفة للجميع، وبعبارات متداولة، وتبويب متبع سابقاً، ومحاججة تعتمد الجامع والسائد في الترجيح والقبول والمشروعية، وهي جميعها كان العقل السني، المدعوم من دولة الخلافة، قد سبق إليها ونصب أعمدتها وشرَّع أبوابها.

يقول الشيخ المفيد في «المقنعة»: «إني ممتثل لما رسمه السيد الأمير الجليل من جمع مختصر في الأحكام وفرائض الملة وشرائع الإسلام ليعتمده المرتاد لدينه ويزداد به المستبصر في معرفته ويقينه ويكون إماماً للمسترشدين ودليلاً للطالبين وأميناً للمتعبدين». وفي ذلك دلالة واضحة على رغبة فقهاء الإمامية، بجعل المذهب مألوفاً، ونزع الغرابة والوحشة عنه، وضخه داخل مجرى التداول الفقهي والكلامي العام للمسلمين.

ثانيها: إسباغ المشروعية على المذهب ومنافسة الآخرين عليها. وهذا يكون بنفي الشذوذ الذي روجه الخصوم حول المذهب الإمامي، وإثبات اعتماد المذهب على نفس الأسس والمنطلقات الشرعية التي تقوم عليها المذاهب السنية السائدة.

بدا هذا واضحاً في تعبير السيد المرتضى في مقدمة «الانتصار»: «بيان المسائل الفقهية التي شنع بها على الشيعة الإمامية وادعي عليهم مخالفة الإجماع وأكثرها موافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدمين أو المتأخرين، وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم، فعليه من الأدلة الواضحة والحجج اللائحة ما يغني عن وفاق الموافق ولا يوحش معه خلاف المخالف. وأن أبين ذلك وأفصله وأزيل الشبهة المعترشة فيه». قول المرتضى يوحي بمسعى المذهب إلى إزالة الشبهات عنه وتأسيس مشروعية، باتت قائمة ومتداولة في الفضاء الفقهي العام. وقد وصل تمادي المرتضى في هذا الاتجاه إلى حد التأكيد على أن الفرق بين ما تفردت به الشيعة لا يختلف عما «انفرد به الشافعي وأبو حنيفة من المذاهب التي لا موافق لهم فيها». ثم يقول: «فكيف جازت الشناعة على الشيعة بالمذاهب التي تفردوا بها ولم يشنع على كل فقيه كأبي حنيفة والشافعي والمالكي ومن تأخر عن زمانهم بالمذاهب التي تفرد بها، وكل الفقهاء على خلافه فيها؟».

وهو أيضاً ما سعى إليه الشيخ الطوسي في كتاب «الخلاف»، الذي لم يكتف بتسويغ الاختلاف عن المذاهب السنية، بل عمد إلى إثبات حضور الأحكام والرؤى الشيعية داخل المصادر السنية نفسها. يقول الطوسي: «وأن أقرن كل مسألة بدليل أحتج به على من خالفنا، موجب للعلم من ظاهر قرآن أو سنة مقطوع بها، أو إجماع أو دليل خطاب أو استصحاب حال أو دلالة أصل أو فحوى خطاب، وأن أذكر خبراً عن النبي ألزم المخالف العمل به، والانقياد له وأن أشفع ذلك بخبر من طريق الخاصة المروي عن النبي أو الأئمة».

قول الطوسي «أذكر خبراً ألزم المخالف (أي السني) العمل به»، يدل على أن كل حكم شرعي عند الشيعة له طريق مسند ومروي عند السنة، ما يبين حرص الطوسي على تأكيد انتماء كل ما يحويه المذهب الإمامي إلى المخزون الروائي عند السنة، ومحاججة الخصم (السني) بقواعد المشروعية وأدوات الاستنباط، من ظاهر قرآن وسنة وإجماع واستصحاب، التي تأسست سابقاً في المحال السني. لذلك يذكر الطوسي في المبسوط: «ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جل ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تلويحاً عن أئمتنا الذين قولهم في الحجة يجرى مجرى قول النبي إما خصوصاً أو عموماً أو تصريحاً أو تلويحاً، وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع، فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في أصولنا ومخرج على مذاهبنا لا على وجه القياس، بل على طريقة يوجب علماً يجب العمل عليها، ويسوغ الوصول إليها من البناء على الأصل وبراءة الذمة». أي إن أحكام المذهب الإمامي من صلب وصميم ما تحويه مدونات السنة بما فيها قواعد التفريع والاستنباط، مع فارق أن الموجود عند السنة بنحو التفريع عن الأصل، والموجود عند الشيعة عبارة عن أصول ثابتة مروية عن الأئمة مولدة للقطع والعلم، لا الظن الذي تحدثه آلة القياس.