يبدو أنّ الأزمة السوريّة ستقضي على ما درجت الأدبيّات الدينيّة على تسميته بالوسطيّة الإسلاميّة، أو بالاعتدال. فالفرز المذهبيّ الذي تشهده ساحات بعض الدول العربيّة المتنوّعة المذهب، ومنها سوريا ولبنان والعراق والبحرين، يدفع بالعديد من المرجعيّات المذهبيّة إلى الانزلاق نحو المزيد من التشدّد، وصولاً إلى التكفير.
أمّا في البلاد التي تخلو من تعدّديّة المذهب، فالأمر سيّان. وما تشهده مصر وتونس، على سبيل المثال، من صعود نجم المتشدّدين والسلفيّين، ليس سوى المزيد من تنامي الفكر التكفيريّ ضدّ العلمانيّين والداعين إلى قيام المجتمع المدنيّ وكلّ مَن يخالف أصحاب السلطة والقرار.
الشيخ يوسف القرضاوي، الرمز الكبير من رموز "الوسطيّة والاعتدال"، دعا، في ما يمكن تشبيهه بالدعوة إلى الجهاد، "جميع المسلمين في كلّ البلاد إلى أن يذهبوا إلى سوريا إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ليدافعوا عن إخوانهم هناك. ومَن يستطع القتال فليذهب ويقاتل". ثمّ أقسم قائلاً إنّه لو كان يستطيع ذلك لفعل من "دون تردّد".
وأبدى القرضاوي أسفه لما قال إنّه وقت أنفقه في الدعوة للتقارب ما بين الشيعة والسنّة، لأنّه اكتشف "أن لا أرضيّة مشتركة بين الجانبين"، ولأنّ "الشيعة يعدّون العدّة وينفقون المال من أجل تنفيذ مجازر في سوريا للفتك بأهل السنّة". واعتبر القرضاوي، مستندًا إلى فتاوى ابن تيمية، أنّ العلويّين "طائفة أكفر من النصارى واليهود، كون أتباعها لا يقومون بأيّ شعيرة من شعائر المسلمين".
تنبع فداحة ما أعلنه القرضاوي من ترؤسه لفترة الاتّحاد العالميّ للعلماء المسلمين، وهو اتّحاد يضمّ علماء دينيّين من السنّة والشيعة. وكان أصدر كتابًا عنوانه "مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب والفرق الإسلاميّة" يعلن فيه إيمانه بالوحدة الإسلاميّة "بكلّ فرقها وطوائفها ومذاهبها".
وكان القرضاوي انتقد، العام 2008، "الغزو الشيعيّ للمجتمعات السنّيّة بنشر المذهب الشيعيّ فيها"، بعد اعتباره أنّ "الشيعة مبتدعون لا كفّار"، والابتداع هو غير "الكفر البواح، أو الكفر المُخرج من الملّة". وأكّد أنّ موقفه هذا من الشيعة هو موقف "كلّ عالم سنّيّ معتدل"، مدرجًا قوله بابتداع الشيعة في سياق الردّ على غير المعتدلين من السنّة، ممّن يقولون عن الشيعة "إنّهم كفّار".
فغير المعتدلين من السنّة، وفق القرضاوي، "يصرّحون بتكفير الشيعة؛ لموقفهم من القرآن، ومن السنّة، ومن الصحابة، ومن تقديس الأئمّة، والقول بعصمتهم، وأنّهم يعلمون من الغيب ما لا يعلمه الأنبياء".
ما الذي تبقّى ممّا يميّز خطاب المعتدلين والوسطيّين، من جهة، عن خطاب المتشدّدين من جهة أخرى؟ فالوسطيّ يقترب خطابه من خطاب المتشدّد ويكاد يتماهى معه، وله وقع أشدّ لدى الأتباع لأنّه يصدر عن مرجعيّة عظمى تنقاد إلى آرائها أغلبية المؤمنين، لا عن شيوخ عاديّين لا شعبيّة واسعة لهم.
الأزمة السوريّة ليست مجرّد محنة وطنيّة أو سياسيّة، بل هي محنة دينيّة ومذهبيّة، يتحدّد على ضوء نتائجها مصير أهل البلاد جميعًا، مسلمين ومسيحيّين. وتحوّل الأزمة السوريّة أزمة مذهبيّة، بعدما كانت في بداياتها أزمة وطنيّة وسياسيّة، يضرّ بالقضيّة الأساس، قضيّة الحرّية والكرامة الإنسانيّة.
نهاية الوسطيّة في الإسلام؟ بقلم الأب جورج مسّوح
نهاية الوسطيّة في الإسلام؟ بقلم الأب جورج...الأب جورج مسوح
NewLebanon
مصدر:
النهار
|
عدد القراء:
370
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro