ولد خليل مطران في بعلبك وتلقى مبادىء الكتابة وأصول الحساب في مدرسة ابتدائية بزحلة ثم أرسله والده الى بيروت فدرس في المدرسة البطريريكية وتخرج فيها على يد الشيخ خليل اليازجي وأخيه ابراهيم. تهالك خليل مطران على الدرس والتحصيل وطالع بنهم كل ما وصل الى يده من آثار كبار الكتاب والشعراء ثم غادر المدرسة وله ثقافة واسعة عربية وأوروبية،
نظم الشعر وهو في المدرسة وبقي لنا من شعره اذ ذاك قصيدة "معركة ايانا" والتي لقيت في ذلك الحين مقاومة عنيفة لما فيها من انتهاج نهج حديث في الشعر، ولم يحصر الشاعر نزعته التحررية ضمن نطاق الأدب والشعر بل تعداهما الى السياسة والاجتماع، فعلا صوته ثائرا ً على الاستبداد الحميدي ودعى الى الوعي القومي ومقاومة الظلم والطغيان. فتتبعه عمال الحاكم وأوقفوه ثم ضيقوا عليه فسافر عام 1890م. الى باريس.
أقام مطران في باريس ردحا ً من الزمن يدرس الأدب ويطالع التاريخ فراقته الروح الفرنسية وراقه الأدب الفرنسي ولا سيما أدب الفريد دي موسييه وراقه الأدب الانكليزي ولا سيما أدب شكسبير وانطلاقه الواسع في عالم الخيال والتحليل واتصل هناك برجال الحركة الوطنية التركية من أعضاء حزب "تركيا الفتاة" فتابعت الحكومة التركية تضييقها عليه هناك فقصد مصر. وصادف وصوله الى الاسكندرية وفاة "سليم تقلا" مؤسس جريدة الأهرام. فرثاه الشاعر بقصيدة أعجبت الجماهير وجعلت بشارة تقلا أخا الفقيد يدعو مطرانا ً للمشاركة في تحرير الأهرام فزاد ذلك من شهرته بفضل جودة تعبيره وأناقته في الأخبار.
اشتهر خليل مطران في مصر بشعره وصحافته واتصل اذ ذاك بأحمد شوقي وقبس من نوره واسترشد به في علم العروض وزامله وصادقه. وفي عام 1900م. أنشأ مطران صحيفة نصف شهرية سماها "المجلة المصرية" وهو آنئذ في أوج شهرته فكانت أول مجلة اختصت بشؤون الأدب في تاريخ الشرق. صدر منها أربعة مجلدات ثم انحجبت. وفي عام 1902م. أنشأ "الجوائب المصرية" وهي صحيفة يومية اشترك في انشائها الشيخ يوسف الخازن وناصر بها مصطفى كامل في حركته الوطنية وفي تلك الفترة أصدر كتابه "مرآة الأيام" عام 1906م في التاريخ العام. في جزأين. وجمع أيضا ً كتاب "مراثي الشعراء" لسامي البارودي. وبدأ في ترجمة مسرحيات شكسبير. وأصدر عام 1908م ديوانه "ديوان الخليل" وهو مجموع ما نظمه حتى ذلك العام. تحول بعدها الى عالم الاقتصاد وأصبح مورده الوحيد، ولكنه أصيب بخسارة كبيرة أفقدته كل ما يملك. فنظم عام 1912م. قصيدته المشهورة "الأسد الباكي" صور فيها حالته النفسية تمام التصوير. ثم عين سكرتيرا ً معاونا ً بالجمعية الزراعية الملكية وذلك شفقة من الخديوي فتحسنت حالته المادية وبعد ذلك نظم أول ملحمة
شعرية له "نيرون" وأقام له الخديوي عام 1913م. حفلة تكريمية تحت رعايته. ثم قامت الحكومة المصرية بمهرجان آخر عام 1947م. اشترك فيه أكبر رجالات الدول العربية وأعظم علمائها وأدبائها مقرين بتفوق الخليل وسمو أدبه ولقب من ذلك الحين ب"شاعر القطرين" وشاعر "الأقطار العربية".
آثاره:
1- ديوانه باسم "ديوان الخليل" بأربعة أجزاء وفيه قصائد طارت شهرتها مثل "المساء" و"نيرون" و"الأسد الباكي" و"آثار بعلبك" و"وقفة في ظل تمثال رعمسيس".
2- كتابه "مرآة الأيام في ملخص التاريخ العام".
3- ونقل الى العربية روايات تمثيلية لشكسبير منها "مكبث" و"هملت" و"عطيل" و"تاجر البندقية" و"السيد" و"سنا".
4- وله ديوان "الى الشباب" وهو ديوان أراجيز في الحكم والأخلاق.
شاعريته:
الخليل كاتب كبير وشاعرملهم وصحفي قدير. شع اسمه في سماء مصر ولبنان وفي كل مكان وأصبح يتمتع فيها باحترام الخاص والعام. الى حد يفوق التصور. ويمد شاعريته ثقافة واسعة يغلب عليها عنصر التأمل والتفكير والنظر. وهو شاعر مجدد فهو شاعر العقل والشعور معا ً. يأتيك بالأفكار والخواطر متسلسلة مطردة والخيال متسقا. ً
أدخل في الشعر العربي "الشعر القصصي والتصويري" وبرع بالخيال الشعري المجنح والصور البارعة.
شاعر الوجدان:
وهو شاعر الوجدان الذي يغمره جو من اللطف والحنان والهدوء لعب الحب في حياته دورا ً كبيرا ً. تتبع معانيه وحلل عناصره وتتبع خطواته خطوة خطوة. كما لعب الألم في نفسه دورا كبيرا ً. أسبابه ظلم وطغيان يضيقان الخناق.
وبعد عن الأهل وحنين الى الوطن. وخسارة مالية ومصائب حلت بنفسه الشفاقة واحساس عميق مع مسحة من التشاؤم تلف شعره. قال من قصيدته "المساء" عام 1902م. يصف داءه:
متفرد بصبابتي متفرد بكآبتي متفرد بعنائي
ثاو على صخر أصم وليت لي قلبا ً كهذي الصخرة الصماء
ينتا بها موج كموج مكارهي ويفتها كالسقم في أعضائي
وقد يتحول الحزن عنده الى بركان هائل. قال من قصيدة الأسد الباكي اثر اعتسكافه في بيته.
دعوتك استشفي اليك فوافني على غير علم منك أنك لي آس
فان ترني، والحزن ملء جوانحي أداريه، فليغررك بشري وايناسي
وكم في فؤادي من جراح ثخينة يحجبها برداي عن أعين الناس
شاعر التاريخ والاجتماع:
ونجد عند مطران شعرا ً تاريخيا ً واجتماعيا ً الى جانب شعره الوجداني. فيهما من روعة الوصف وحسن التعليل ما في شعره الوجداني أيضا ً. قال في قانون المطبوعات الجائر:
شردوا أخيارها بحرا ً وبرا ً واقتلوا أحرار ها حرا ً فحرا ً
انما الصالح يبقى صالحا ً آخر الدهر ويبقى الشر شرا ً
كسروا الأقلام هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخرا؟
ونلاحظ التغني بالحرية في شعر مطران فهو يحمل على الملوك المستبدين ويطالب بحكام من العرب كالحكام الأولين الذين ساروا في الناس سيرة عادلة. قال من قصيدة مقتل "بزرجمهر" يمثل طغيان الملوك، وان طغيان الملوك ما هو الا نتيجة جهل الشعب:
سجدوا لكسرى اذ بدا اجلالا كسجودهم للشمس اذ تتلالا
هم حكموه فاستبد تحكما ً وهم أرادوا أن يصول فصالا
والجهل داء قد تقادم عهده في العالمين ولا يزال عضالا
عباد "كسرى" ما نحيه نفوسكم ورقابكم والعرض والأموالا
تستقبلون نعاله بوجوهكم وتعفرون أذلة أوكالا (الأوكال: العجز)
فخليل مطران ينشد البطولة في الشعب واثارة الوعي وشيوع العدل والانتقاضة على الظلم والاستبداد.
شاعر الوصف:
ومطران شاعر الوصف فهو وصاف ماهر من الطبقة الأولى يشمل وصفه المعنويات والماديات يعبر عن أدق التفاصيل والجزئيات. يعتمد على الترتيب والتحليل والتمثيل والتشبيه والتجريد وكل ما من شأنه أن يجسم الموصوف ويحييه ويجعله ينطق. قال يصف آثار بعلبك:
هم فجر الحياة بالادبار فاذا مر فهي في الآثار
ايه ! آثار" بعلبك" سلام بعد طول النوى وبعد المزار
خرب حارت البرية فيها فتنة السامعين والنظار
معجزات من البناء كبار لأناس ملء الزمان كبار
وقال يصف حريق روما من ملحمته الكبيرة "نيرون" محللا ً نفسية نيرون طاغية روما القديمة:
فاز" نيرون" بأقصى ما اشتهى محرقا ً "روما" ليستبدع فكرا
شبت النار بها ليلا ً وقد رقدت أمتها وسنى وسكرى
جمعت أقسام "روما" كلها في جحيم تصهر الأجسام صهرا
الأسلوب:
يتصف مطران بصحة الفكرة ووحدة القصيدة وصدق النظرة والثقافة الشاملة بصياغة بديعة وشعور صادق، وخيال جامع وجمال فني في الأداء، مع لذة عقلية وغذاء في الفكرة والعاطفة والنفس فهو شاعر مجدد، انه شاعر الفئة المثقفة من المجتمع شاعر الأدباء والعلماء شاعر الطبقة المفكرة في المجتمع. كان يهتم بالفكرة أكثر من اهتمامه بالتركيب. ومطران بالشعر الحديث كأبي تمام في الشعر القديم.
كان مطران يريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف أنواع رقية، يريد أن يتغير شعرنا مع بقائه شرقيا ً ومع بقائه عربيا ً. وأنت اذ تقرأ شعره مدحا ً وغزلا ً ووصفا ً وتفجعا ً وغير ذلك تلمس فيه فلسفة الرضا غالبة على سياقه متفشية في روحه حتى ليخيل اليك أنه أدرك جميع حقائق الحياة فاستوى عنده حلوها ومرها وصفوها وكدرها.
وكان لمطران رسالة تدفعه الى السمو بالانسانية الى أرفع مكان تستأهله بحيث لا يكون لها من هدف الا الحرية والعدل وتأمين الخائف واطعام الساغب ورد ظلامة المظلوم. ويرى مطران أن الشاعر ليست وظيفته أن يكون نظاما ً لغويا ً أو مرتلا ً بين المرتلين الانتهازيين بل عليه أن يكون بين زعماء الفكر ورسل الوجدان ودعاة الاصلاح وأعلام الايمان لجيلهم ولما بعد جيلهم. وانه يجمع بين كل القيم التي تؤهله للزعامة الروحية والعقلية والتي تزاوج ما بين أحلام الشاعر وحكمة الفيلسوف الواقعي.
خليل مطران : سيرة حياة
خليل مطران : سيرة حياةنيفين علاء الدين عكر
NewLebanon
مصدر:
لبنان الجديد
|
عدد القراء:
15930
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
تعليقات الزوار
موقع مش محترم حالو معقول عم تسرقوا المقالات عن الغوغل وتعملهم باسمائكم عنجد مش محترمين ابدا عم تضحكوا على مين حضرتكم يا موقع لبنان الجديد
الإسم: جمانة
3 حزيران 2013
إن موقع لبنان الجديد لا يتحمل مسؤولية التعليقات وغير مسؤول عنها.
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro