لا يستطيع المراقب للأحداث الأخيرة في لبنان – وأقصد هنا الخرق السيبراني الإسرائيلي لشبكة إتصالات حزب الله – والتي أوقعت عشرات القتلى وآلاف المصابين إلا أن يتوقف عند الإلتفاف الشعبي الواسع الذي حظي به الحزب من كافة المكوّنات اللبنانية عموماً.

كردة فعلٍ أولية، نجد هذا التعاطف العفوي منطقياً تماماً؛ فمشاهد الموت والدماء والأنين والعذاب يجب أن تحرّك عواطفنا وإنسانيتنا كما حرّكتها سابقاً صور الإبادة في غزة، وصور ضحايا كيماوي الغوطة وصور قيصر التي باتت عنواناُ للإجرام الأسدي وقبلها صور ضحايا ألمانيا النازية، الخ. فالشعور بالتعاطف مع  الضحية/الإنسان دليلٌ على إنسانيتنا وآدميتنا.

لكن مع مرور هول اللحظات والأيام الأولى، يصبح من الضروري التنبه لفخّ العاطفة الجماعية التي تتقن الأنظمة الإستبدادية والجماعات الدينية المتطرفة إستغلالها الى أبعد حدّ وخاصةً ان مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تزال عاطفيةً للغاية. وهنا انا لا أقصد ابداً  إطلاق أحكامٍ تصنيفية أو تنميطية إذ إنني ممن يرفضون  تماماً الفكر الإستشراقي الذي يعتبر أن الشعوب العاطفية أقل شأنا من تلك التي تتبع عقلها البحت؛ كذلك أنا أؤمن بأن العاطفة محرّك أساسي للعقل البشري وهما يشكلان معاً كُلّاً لا يتجزأ وقد قالت المتصوفة قولاً جميلا في هذا: "العقل موضع صقيل من القلب، متنورٌ بنورالروح". إلا أن هذه العاطفة يجب أن تصقل لتصبح أكثر وعياً فتجعل صاحبها أكثر عقلانيةً، مُدركاً لما يدور من حوله ومُتوقِّعاُ للنتائج.

ومن هنا، وبعد لملمة الجراح، على اللبنانيين قطعاً التفكر والتأمل في عدة مسائل لتفادي السقوط المدوي -سقوط الكيان اللبناني الذي لن يكون من بعده نهوض، أقلّه خلال عدّة عقودٍ قادمة – (إن لم يكن هذا السقوط قد حصل وفات الأوان بالفعل!).

بمعزلٍ عن أحقيّة القضية الفلسطينية المطلقة ومحوريتها في أيّ سلامٍ وازدهارٍ يمكن ان تشهده منطقة الشرق الأوسط، لا يحقّ لأي جهةٍ كانت إتخاذ قرار الحرب و السلم بمعزلٍ عن الدولة حتى وإن كان بحجة القضية الفلسطينية ودعم غزة؛ وعلى اللبنانيين جميعا استيعاب هذه الحقيقة. فالدولة ليست ستاراً يستغلها حزب الله تارةً ليحمّلها مسؤولية الفساد والتقصير ويهمّشها تارةً أخرى بحجة أنها غير قادرة على المواجهة. الدولة هي الحلّ الوحيد والأوحد والذي لا خلاص لنا دونه... ولينظر اللبنانيون الى ايران والعراق واليمن وسوريا حيث الميليشيات والفقر والعوز والدمار والقتل.. لعلعهم يعتبرون!

إن تغليف كل المآرب والمشاريع التوسعية الإيرانية برداء الدفاع عن فلسطين خدعةً لم يعد من المقبول ان تنطلي على أحد وخاصةُ على اللبنانيين الذين عاشوا الإحتلال الأسدي لبلادهم، هذا النظام الذي استبد لأكثر من نصف قرن و عاث قتلاً في العباد وتدميراً في البلاد بحجة الدفاع عن فلسطين وعروبتها. فالعبرة في النتائج والنتيجة أن الحدود السورية – الاسرائيلية كانت الحدود الأكثر هدوءاً على الرغم من كل الشعارات الرنانة وكان القضاء على اسرائيل يمر دائماً عبر المدن السورية فيحصد ارواح أبنائها المعارضين للنظام واليوم نرى المستفيد الأبرز من كل ما يحصل إيران التي لا تهدف إلا لتحسين شروط تفاوضها وتخفيف الضغط عن نظامها عبر قتال اسرائيل حتى آخر "عربي" مُوالٍ لها!

 

أما الأهم من كل ذلك أنه من غير المقبول لنا كلبنانيين أن نبقى غير مبالين عند رؤية صور أطفالٍ قتلوا مذيَّلةً بعبارة "هنيئاً لكم الشهادة" أو أن نسمع آباءهم يقدمونهم شهداء فداءً لفلانٍ أو فلان!!! أو أن نرى شاباً يتغنى بدمار منطقته أو بلاده كرمى لعيون زعيمه الحزبي! إنها ثقافةٌ لا تشبهنا ولا تشبه أي "إنسانٍ" عاقلٍ حكيم؛ فالمقاومة لم توجد يوماً كسبيلٍ للموت وإن كان الموت في سبيل ما نؤمن به ضرورياً في كثيرٍ من الأحيان ولا كوسيلةٍ لنشر الدمار وإن كان لا مفرّ من الدمار غالباً، فالمقاومة فلسفة حياة وإرادة حرّة ومستقبل زاهر...المقاومة مسارُ شائكٌ لكن متفائل ومفعم بالحياة لا يمكن إلا لأحرار العقل والروح اتباعه ولنا في المقاومة الفييتنامية والفرنسية و الجزائرية ومقاومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وغيرها الكثير خير مثال! وحين يأتي التحرر والتحرير، لا مفرّ لهذه المقاومة من تسليم الراية حتى يبدأ البناء و الإزدهار، إذ حين تتحول الى وظيفةٍ براتبٍ تصبح أمام خطر الإنزلاق نحو فخ الإرتزاق!!!