لغوياً، تعرّف المعاجم والقواميس "المقاومة" بشكلٍ عامّ على أنها "صعوبةٌ تواجهها قوة معيّنة". ومن هذا  المعنى الأصلي، تتفرّع كل المعاني الأخرى ومنها المعنى المستخدم في السياق العسكري أي " تنظيم عسكري او شبه عسكري يشنّ على العدو المحتلّ حرب عصاباتٍ في المدن أو خارجها أو حتى تنظيم مدني شعبي يتصدّى للعدو". وقد تعني المقاومة أيضاً ببساطة "الثبات وعدم الاستسلام". 

ويظهر التعريف العسكري لكلمة "مقاومة" عنصراً أساسياً يتحتّم وجوده لكي يكون لهذه الكلمة معنىً وهو "العدو" الذي من دونه تفقد هذه الكلمة معناها ومحتواها إذ أن لا "مقاومة" من دون عدوٍ. وبالتالي، فإن المقاومة حالةٌ استثنائية طارئة تتشكّل في الظروف الحرجة التي يهدّد فيها عدوٌ ما الكيان والوجود والأرض فيكون هدفها الدفاع والصمود، وليست حالة دائمة مستمرة. هي إذن حكرٌ على فترات الحرب ومن الطبيعي والمنطقي ان تتلاشى حين يعمّ السلام باعتبار أنها أدّت مهمتها. 

ويعجّ التاريخ بالأمثلة على حركات مقاومةٍ تصدّت للأعداء والاحتلال كمقاومة البولونيين و الفرنسيين ضد الاحتلال النازي او مقاومة الجزائريين وابناء بلاد الشام ضد الاحتلال الفرنسي او مقاومة ابناء جنوب أفريقيا ضدّ المستعمر الأبيض وغيرها الكثير وهي كلها حركات أدّت رسالتها السامية وحررّت البلاد والعباد من ظلم المحتل الغاشم وبذلك هيّأت البلاد تلقائياً لمرحلة إعادة بناء الدولة الحرة المستقلة التي تؤسس لفتراتٍ لاحقةٍ من الازدهار الاقتصادي والتطور الاجتماعي و الوعي الثقافي، هذا الوعي الذي يستمدّ من تجارب المقاومة العِبَر والدروس لكنه لا يبقى حبيساً لها بل ينطلق حرّاً في فضاء الحريات والحقوق ليبني مستقبلاً أفضل لإنسان الأرض المحرّرة وليحقق كرامته وإنسانيته، هذا الإنسان الذي كان وما زال وسيبقى الهدف الأسمى لأيّ مقاومةٍ صادقة. 

وباعتبار اننا نعيش حالياً في كنف ما يسمّى "محور المقاومة"، فمن الطبيعي ان نطرح كمواطنين في الدول التي تحكمها جماعات تنتمي الى هذا المحور اسئلةً شرعيةً ومنطقيةً حول ماهيّة "المقاومة" وفلسفتها، وخاصةً أن الكثير من هذه الجماعات لا تواجه حروباً مع عدوٍ واضح او مباشرٍ أو منظور بل اختلقت ما يسمّى "ثقافة المقاومة" وهي حالةٌ نفسية دائمة يكون فيها الشخص مستعداً للتضحية باستمرار بكل نفيس وعزيز من دون أدنى تشكيك في أسباب هذه التضحية او ضرورتها او حتى وجود دعائم منطقية لتبريرها. 

وقد يكون التعريف الذي قدّمه الأب الروحي لهذا المحور علي خامنئي خير دليلٍ على هذا التوجه إذ يرى المقاومة "ان يختار الإنسان طريقاً يعدّه الطريق الحقّ والطريق الصحيح ويسير فيه ولا تستطيع الموانع والعقبات صدّه عن السير في هذا الدرب وإيقاف مسيرته". وينقل هذا التفسير السفسطائي المقاومة من معناها المادي والمحسوس الى معنىً آخر فضفاضٍ زئبقيٍ غير ملموس؛ فالعدوّ الحقيقي والمباشر لم يعدّ عنصراً ضرورياً وأساسياً لقيام المقاومة بل صارت المقاومة منهجاً فكرياً ومسلكاً حياتياً دائماً. قد يقول أحدهم أن التفسير آنف الذكر يضيف أبعاداً فلسفيةً الى مفهومٍ قديم، إلا أن التطبيق العملي الذي نراه بأمّ أعيننا يؤكد خطورته وينزع كل الشكوك. فالعدو لم يعدّ تلك الجهة الخارجية المباشرة التي تهدد الأرض والإنسان فحسب، بل صار من الممكن أن يكون داخلياً أو حتى أن يكون فكرةً او رأياً. فحوثيو اليمن يقتلون اليمنيين قصفاُ وجوعاً بحجة المقاومة، وبشار الأسد فتك بأبناء شعبه باسم المقاومة وحكّام العراق سرقوا ونهبوا وبطشوا تحت مسمى المقاومة وحزب الله اللبناني حمى المقاومة في 7 أيار، كما حماها يوم ساند الدكتاتور ضد شعبٍ مسالمٍ أعزل. 

تظهر كل هذه الأمثلة أن مفهوم المقاومة الأساسي أٌخرِج عن سياقه التاريخي الطبيعي وفَقَد هدفه الأسمى؛ فلم تعد المقاومة حركةً تهدف الى تحرير الأرض وحماية الإنسان و تأمين حياةٍ كريمةٍ له، بل صارت وسيلةً للوصول الى الحكم لنشر الفوضى والرعب ونهب الثروات ونشر الظلامية الفكرية و قتل المعارضين والتنكيل بهم والقضاء على أي اختلافٍ او تنوّع، ناهيك عن أهمّ نتائجها وهي إفقاد هذه البلاد استقلالها وجعلها تدور في الفلك الإيراني. 

للأسف، ما نشهده اليوم ليس تغييراً او تحويراً بسيطاً طرأ على مفهوم المقاومة، بل نقضٌ وتشويهٌ تامّ لهذا المفهوم، فصارت "المقاومة" ومحورها رديفاً للفقر والبؤس والاقتصادات المنهارة و الشمولية وكبت الحريات وانعدام الأمن وغياب السيادة الوطنية. 

تحوّلت "المقاومة" في بلداننا الى طبقةٍ حاكمة فاسدة ومستبدة تنجح في استخراج عدوٍ حقيقي او وهمي في كل مرةٍ يطيب لها تجييش غرائز وعواطف جمهورها المسيّر؛ أما المقاومة الحقيقية، فهم أولئك المعارضون الذين صمدوا رغم كل الصعاب، فلم يخافوا ولم يخنعوا ولم يهاجروا، ورابطوا في ارضهم رغم الأوضاع الامنية والاقتصادية والثقافية وحافظوا على سلاحهم الأوحد وهي الكلمة الحرة. وقد تكون بداية المقاومة الحقّة ... كلمة.