الكتابةُ فعلٌ يرقى إلى مصاف المقدّس، فأنت عندما تكتب، تُفضي بأنبل ما في وعيك وضميرك وأحاسيسك، وللأسف، فإنّ شبكات التواصل الاجتماعي حطّت من قدْر الكتابة، إلاّ ما رحِم ربُّك، والكتابة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ما إن يحويها كتابٌ، حتى يُصبح مقدّساً، كنصوص التوراة. ويذهب بعضُ المعاصرين الى ردّ الأسطورة الى معناها الأصلي، وهو ما كان مسطوراً ومُسطّراً، وهذا على ما يبدو كلامٌ حِميريٌّ قديم، فيذكر السّيوطي في "الإتقان"عن ابن عباس، في تفسير قوله تعالى: "في الكتاب مسطورا". قال:مكتوباً، وهي لغة حِميريّة، يُسمُّون الكتاب أسطوراً، وعليه لا تكون الأسطورة خرافةً وأباطيل، بل ما دوّنهُ أصحابها، أو استطاعوا تسجيلها وكتابتها. والاسلام احتفظ لليهود والنصارى بمكانتهم اللاهوتية والفقهية والتاريخية، بأنّهم "أهل الكتاب"،وأحكامُهم خاصة تختلف عن أحكام المجوس والصابئة، الذين لا كتاب لهم، أي لا قُدسية. وأساطير الأولين كما وردت في القرآن، إن هي إلاّ كتبُ الاوائل. كُتب، لا ألفاظ، ولا روايات شفهية. وهذا يعني أنّهم كانوا يسطرون ما كان ذا قيمة لحياتهم ومعاشهم. وبما أنّهم لم يكونوا مثلنا مهمومين بالسياسة وخبائث السلطة، فإنّ أساطيرهم تشتمل على تدوين معلوماتٍ ومعارفَ تتّسق مع حضارتهم وتاريخهم. وكانت تتراوح بين وصفات الطبخ (أهم اختراعات البشرية حتى اليوم)، وحساب حركات الافلاك وما بينهما، وكانت تهتم بالوثائق الإقتصادية والإدارية. أمّا كتابة التاريخ، المبني على النصوص المُقدّسة وادعاء الاستقامة و"العلمية"تارةً، و"الموضوعية"طوراً، فدونها عقباتٌ ومشاق. فنتسائل مع الصديق حسن قبيسي، رحمه الله، أتُرانا مُتّفقين "علمياً" حول مجريات التاريخ التي حصلت في حرب الجمل، أو صفّين، أو كربلاء. أو ما إذا كان النبيُّ العربيُّ قد أوصى لعليّ بن أبي طالب، أم لا؟ وما إذا كان قد أباح المُتعة أو لم يُبحها. وإذا كان هذا هكذا منذ أربعة عشر قرناً، وأنّ أهل السوء هم الذين بثُوا الشقاق بين أبناء الامة الواحدة، فلماذا نختلف اليوم ونحترب وتسيلُ دماؤنا بلا حسيبٍ أو رقيب، ولا نتّفقُ على أحداثٍ هي أقربُ إلينا من حبل الوريد؟ ويبقى السؤال: لماذا كان مؤرخ الطائفة الفلانية من العمى بحيث لم يقرأ الوثائق التي وقع عليها مؤرخُ الطائفة العلانية.وما هو التاريخ الذي سيُكتب لبلادنا بعد خمسين سنة مثلاً؟ وما هي الوثائق التي سيعتمدُها المؤرخون؟الصحف اليومية، التسجيلات، بيانات الميليشيات، تقارير الاستخبارات، صُور المعارك والقتلى ومآسي المهجّرين، أكاذيب المسؤلين، الخطابات السياسة، وطبعاً صفحات التواصل الاجتماعي، على كل ما هو مكتوبٌ ومدوّنٌ ومُقدّس، وتتلاشى الروايات الشفهية، وتختفي أحاديثُ الناس المهمومة وأنّاتهم. وصيحاتُ الأُمهات الثكلى، وآهاتُ الآباء المفجوعين، ويبقى الشّقاقُ والنّفاق سيد الكلام بلا منازع. وتفقدُ الكتابةُ ألقها وقُدسيّتها، بما تسرّب بين السطور من سُمٍّ زُعاف، وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
قدسُ الكتابة ودنسُها..
قدسُ الكتابة ودنسُها.. د. أحمد خواجة
NewLebanon
مصدر:
لبنان الجديد
|
عدد القراء:
2920
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro