إن الأحزاب الأيديولوجية - والمقصود هنا الأيديولوجيا بمفهومها الماركسي والمتمثلة بمجموعةٍ من الأفكار والمعتقدات الراسخة والمهيمنة التي تستخدمها الطبقة الحاكمة لتثبيت حكمها وسلطتها - تعتمد على عناصر ومقوّمات ثابتة لجذب الجمهور والحفاظ عليه.
أول هذه الركائز فكرةٌ محورية يتم اختيارها بعنايةٍ وذكاء فتصبح جوهر الأيديولوجيا الخاصة بالمجموعة؛ وتكون هذه الفكرة عادةً قضيّة محقّة تحوز على إجماع السواد الأعظم من الناس فتصبح بذلك قضيّة حق يراد بها باطل وتتحول الى الفيصل الذي يُصنّف الأشخاص وفقاً له حسب المعاييرالضيّقة التي تضعها الجماعة وفقاً لمصالحها وخدمةً لاستمرارية سلطتها. أما الركيزة الثانية فهي نوعية الجمهور المستهدَف من قبل هذه الأحزاب إذ أثبتت دراسات عديدة أن جمهور الأحزاب المتطرفة بشقّيها الديني والقومي يتشارك مجموعةً من الخصائص قد تكون أبرزها الثقة الزائدة وعدم الاستعداد لتقبل الآخر بالإضافة الى النزعة الى تبسيط الواقع الاجتماعي بشكلٍ مفرط من خلال تصوير العالم إما ابيض أو أسود. وتبرز أهمية سياسة التبسيط المذكورة آنفاً بشكلٍ خاص عند ربطها بنتائج الأبحاث النفسية التي درست المتطرفين وأظهرت ان معظمهم يعانون من صعوبات نفسية قد يكون ابرزها الشعور بانعدام القيمة او انعدام الاستقرار واليقين، وبالتالي فهم يبحثون عن إجاباتٍ ثابتة لإنهاء حالة الضياع واللانتماء التي يعيشونها مهما بلغت سخافة او سطحية هذه الإجابات، في محاولةٍ بائسة للوصول الى الهدوء والسكينة وخوفاً من أي رأي مختلف او نقاش باعتباره مصدر خطرٍ يهدّد راحة بالهم "المصطنعة".
وقد يكون أبرز مثالٍ على هذا الواقع قيام معظم المجموعات التوتاليتارية في عالمنا العربي باستغلال القضية الفلسطينية ابشع استغلال واستخدامها الدائم كشمّاعة لتمرير كل مشاريعهم الإجرامية الدموية والاستفادة القصوى من الالتفاف الشعبي حولها ورمزيتها في الوعي الجمعي العربي والمسلم ومن ثم الانقضاض على ايّ معارض بحجة خيانة القضية، وهي الحجة التي لن تُقابَل بالرفض من جمهور الساذجين.
وكما يحتاج حلّ أيّ مسألة الى تفكيك العناصر المؤلفة لها للقدرة على مقاربتها بالشكل الصحيح، من الأساسي فهم هذه الركائز التي تعتمد عليها الأحزاب التوتاليتارية وتتبناها للقدرة على مواجهتها او على الأقل لوضع تصوّر لكيفية القيام بذلك.
فالنظام الأسدي في دمشق ونظام ولاية الفقيه الإيراني وأذرعه في المنطقة كانوا السبّاقين الى اتباع هذه السياسة؛ وقد نجحوا لعقودٍ من الزمن في الحفاظ على سلطتهم عن طريق معادلة مفادها إما ان تكون موالياً وبالتالي مناصرا للقضية الفلسطينية او معارضاً لهم فتصبح تلقائياً عميلاً وخائناً.
وعلى الرغم من التسطيح المفرط لهذه المعادلة وسذاجتها الظاهرة الا أنها نجحت في تدجين المجتمعات؛ فبالنسبة للموالين الذين يبحثون عن الاستقرار، يُعتبر هذا التصنيف الصارم الحلّ الأنجع لطمأنتهم: فهم في محور الأخيار بينما "الآخر" المختلف في محور "الأشرار". أما المعارضون فقد انكفأ معظمهم خوفاً من التهم التي قد تصل حدّ الخيانة العظمى وخوفاً من بطش الجمهور قبل السلطات في الكثير من الأحيان.
ويستفيد حزب الله اليوم من هذا الواقع ايّما استفادة إذ يصوّر من يعارض من اللبنانيين مناوشاته الحالية مع اسرائيل على الحدود الجنوبية كخائنٍ للقضية الفلسطينية؛ وقد أدّى هذا النهج الى تراجع الكثير من المعارضين الحقيقيين لهذا الحزب عن التعبير عن آرائهم علانيةً او حتى الى إعلانهم أنهم، وعلى الرغم من اختلافهم مع الحزب على مختلف المستويات، يؤيدون مواجهته لاسرائيل. وتعتبر هذه النقطة الأخيرة غاية في الخطورة إذ يكون حزب الله قد نجح في جرّ معارضيه الى ملعبه وفقاً لشرو ط اللعب التي وضعها بنفسه فيكون نجح في تمرير مخططاته الماكيافيلية.
أن نكون كلبنانيين معارضين لحزب الله لا يعني ابداً اننا لا نناصر القضية الفلسطينية ولا يعني اننا لا نعارض بشدة الإبادة الجماعية في غزة؛ أن نكون معارضين لحزب الله يعني أننا لا نقبل ان يستحوذ فريقٌ مسلّح على قرار السلم والحرب خارج إطار الدولة، تلك الدولة نفسها التي يدّعي هذا الحزب أنه يحميها ؛ أن نكون معارضين لحزب الله يعني أننا لا نقبل بخوض حروبٍ بالوكالة على أرضنا لتحسين ظروف تفاوض هذه الدولة او تلك مع الشيطان الأكبر اوالأصغر، وأخيراً أن نكون معارضين لحزب الله يعني أننا لم ولن ننسى ما اقترفته أيادي هذا الحزب في سوريا من قتلٍ وذبحٍ وتشريد ودعم لنظام طائفي مقيتٍ مجرم لا يقلّ حقارةً عن نظام الفصل العنصري الاسرائيلي. فكيف بالله عليكم يقنعنا من قتل أهل سوريا واحتل أرضهم واستوطنها أنه يعادي اسرائيل لأنها قتلت أهل فلسطين و احتلت ارضهم واستوطنتها!!!