أدّت حرب الإبادة التي تشنها اسرائيل على قطاع غزة الى تغيير ملامح القضية الفلسطينية التي اتخذت مجدداً منحىً أخلاقياً شاملاً، فتخطت كونها قضيةً إقليمية خاصة بالعرب أو قضية دينية خاصة بالمسلمين لتعود مجدداً قضيةً إنسانية يخرج لنصرتها ملايين الأشخاص حول العالم، وآخر هذه المظاهر تقديم دولة جنوب إفريقيا - الدولة التي عانت أبشع مظاهر الفصل العنصري - دعوى ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. من ناحيةٍ أخرى، دفع هذا العدوان الدموي الى الواجهة ببعض المفاهيم و الأفكار التي كان يعتقد الكثيرون أنها قد اندثرت وتلاشت من هذا العالم.
وقد تكون أخطر الأفكار والمعتقدات التي طفت مجدداً على السطح فكرة "تفوق الإنسان الأبيض" (White Supremacy) التي انتشرت خلال القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين والتي عادت للظهور علانيةً - مع تغييراتٍ وتعديلاتٍ شكلية - مرةً أخرى بالجوهر نفسه، وأقول علانيةً لأنني أؤمن بأن هذه الفكرة لم تغب يوماً بشكلٍ تام عن أوساط "النخب" السياسية والاجتماعية في ما يسمى بالعالم الغربي. كما بدأ يتضح أكثر فأكثر ارتباط هذا الفكر بحركة الصهيونية العالمية كحركةٍ فكريةٍ وإجتماعية عنصرية بيضاء لا تقتصر على اليهود المتعصبين فحسب، بل وأكثر من ذلك قد تكون استغلت القضية اليهودية لمآربها الإمبريالية الخاصة.
وقد برزت في الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة على وجه الخصوص مؤشراتٌ عديدة تدعم هذه النظرية منها التي تحمل طابعاً رسمياً كتصريح الرئيس الأميركي بايدن علانيةً تبنيه للأفكار الصهيونية والسياسة الأميركية الخارجية التي تقدّم لإسرائيل الدعم غير المشروط وتتبنى مواقفها ضاربةً بعرض الحائط بكل المعايير الدولية والإنسانية والمعاهدات والإتفاقيات الخاصة بالحروب والتمييز الفاضح بين الضحايا حيث أن قيمة الضحايا الإسرائيليين تفوق أولئك الفلسطينيين الذين يقتلون بالآلاف و يُجبرون على الحياة في ظروفٍ أقلّ ما يُقال عنها أنها غير آدمية؛ ومنها أقلّ ظهوراً ولكن أكثر رمزيةً كقيام بعض القوميين البيض برفع العلم الكونفدرالي (أي علم الولايات الجنوبية خلال الحرب الأميركية والذي تبناه العنصريون والقوميون البيض بكل ما يعبّر عنه من دعم للعبودية والعنصرية وعدم المساواة) الى جانب العلم الإسرائيلي في إشارةٍ لدعم هؤلاء لإسرائيل في حربها على غزة. وتبرز هنا مسألةٌ غاية في الأهمية قد تبدو للوهلة الأولى منافيةً للمنطق؛ فكيف يمكن لمن يدّعي تفوّق العرق الأبيض أن يدعم اليهود الساميين الذين هم بلا أدنى شك أقلّ شأناً في أدبياته؟ لكن عند التعمّق أكثر في الأفكار والممارسات الصهيونية، يتضح أكثر فأكثر التقارب ما بين هذه الأفكار والفكر الإمبريالي الغربي "الأبيض" بل وأكثر من ذلك قد تبدو الصهيونية حركة يهوديةً في الشكل إمبرياليةً أوروبية في المحتوى. وقد تفيد هنا عودةٌ سريعة الى التاريخ لفهمٍ أعمق لهذه العلاقة: يشكّل اليهود الأشكناز – وهم اليهود القادمون من أوروبا وخاصةً الوسطى والشرقية – الجزء الأكبر من اليهود في العالم. وتختلف النظريات المتعلقة بأصول هؤلاء ما بين النظريات التي يتبناها اليهود والتي تدّعي أن الأشكناز هم يهود عاشوا في الإمبراطورية الرومانية ومن ثم هاجروا الى أوروبا واستقروا فيها وتلك التي تزعم أن الأشكناز كانوا شعوباً غير يهودية (بالإنكليزية Gentiles) واعتنقوا اليهودية في فتراتٍ لاحقة. لكن، سواء كان الأشكناز شعوباً أوروبيةً إعتنقت اليهودية أم كانوا يهوداً عاشوا في أوروبا فتخالطوا مع الشعوب المحليّة وتطبعوا ببعض طباعها، يفسّر هذا التاريخ التقارب أو حتى التماهي ما بين الشوفينية الأوروبية والإعتقاد بتفوق الرجل الأبيض وما بين الحركة الصهيونية التي، وإن كانت اليهودية إحدى واجهاتها، تتبنى أفكاراً ومعتقدات إمبريالية أوروبية.
كذلك، قد تكون الحملة التي شُنَّت ضد رئيسة جامعة هارفارد "كلودين غاي" وأدّت في نهاية المطاف الى استقالتها والنقاشات التي دارت خلال وبعد هذه الحادثة مؤشراً مهماً على هذه التوجهات القديمة-الجديدة، فهي تكشف من جهة النفوذ الكبير الذي يمارسه اللوبي الصهيوني على كبريات المؤسسات الفكرية والسياسية والإجتماعية العالمية إن كان من خلال التمويل أو غيرها من الضغوط السياسية والإجتماعية، فكان المطلوب من السيدة غاي أن تمنع المظاهرات المناهضة للحرب على غزة في حرم الجامعة تحت حجة أنها معادية للسامية وذلك في تفسيرٍ جدلي لشعار " من النهر الى البحر....فلسطين حرة " (From the river to the sea…Palestine must be free) كدعوةٍ لإبادة اليهود في اسرائيل وهو ما رفضت هذه الأخيرة القيام به باعتبارها ستخالف مبدأ حرية الرأي ، أحد الأركان الأساسية للحياة الجامعية. ومن جهةٍ أخرى، برز ضمن معارضي السيدة غاي أشخاصٌ معروفون بتشكيكهم بما يُعرف بالنظرية العرقية النقدية - وهي النظرية التي تدرس كيفية تأثير القوانين الإجتماعية والسياسية على الفهم الإجتماعي لموضوع العرق وتأثرها به على حدٍ سواء و التي تعتبر أن العنصرية متجذرة ليس في عقول البشر فقط بل أيضاً في الأنظمة والقوانين السائدة - فبدأوا يسوّقون لفكرة أن غاي غير جديرة بهذا المنصب وقد تم اختيارها له فقط لكونها امرأةً ذات بشرةٍ "سوداء" ولأبوين "مهاجرَين" من هاييتي، وذلك في إشارةٍ الى ما يراه المتعصبون البيض تمييزاً ضدهم و امتيازات غير مستحقَة ينالها الآخرون "غير البيض" بسبب عرقهم لا أكثر! والجدير بالذكر أن هذه التوجهات التي تعتقد بمظلومية "الرجل الأبيض" و ضرورة استعادته لحقوقه بدأت تظهر للعلن أكثر فأكثر في الولايات المتحدة الأميركية حيث قامت بعض الولايات بمنع تعليم النظرية العرقية النقدية في مدارسها باعتبارها مسيئة للبيض!
قد يكون الهدف الأساسي من استعراض هذه التوجهات والأحداث هو الفهم الأعمق والأشمل لتداعيات حرب الإبادة في غزة على العالم أجمع: فاليوم اتضحت بشكلٍ لا يقبل الشك إزدواجية معايير العالم "المتحضر" و"الديمقراطي" الذي لا يساوي مطلقاً بين حياة مواطنيه الذين تقدّم لهم دولهم أفضل ما يمكن تقديمه من حقوق وخدمات ورفاهية وبين حياة مواطني الدول الأكثر فقراً و"تخلفاً" التي تفقد كل قيمةٍ عندما يهدد أيُّ خطرٍ مصالح هذا العالم في تجسيدٍ لظاهرة "الإنسان المستباح أو المنبوذ" كما يقول الفيلسوف الإيطالي جورجيو اغامبين حيث تفقد البشرية قداستها بإسم القانون والأعراف الدولية! وما اعتراض عدّة دولٍ لاتينية وإفريقية على مذبحة غزة وعلى رأسها جنوب إفريقيا التي عانت أبشع صور الإستعمار والعنصرية وناميبيا التي تعرضت للإبادة الجماعية على يد المستعمر الأبيض إلا خير دليلٍ على وعي هذه البلدان بوحدة الصراع والكفاح والمصير...