الأيام الـ11 الأولى مرّت كالعلقم، لا شبابيك، لا مياه، لا شيء يوحي بالحياة لمن هو بحاجة للحياة، بل كل شيء يريد لك الموت. من الذين هربوا من الحرب الى خارج الجنوب وصولا الى الذين هربوا من الضاحية، صرنا 11 عائلة في طبقتين حيث لا شروط للحياة. ولا من يسأل عنا إلا عدد ضئيل جدا لا يتعدّى الثلاثة من الاصدقاء…
كنت في مكتبي أستمع الى الاخبار. بدأ الزملاء يتركون مكاتبهم الواحد تلو الآخر، وانا باقية، لا حركة، خائفة من الهدوء المخيف في المكاتب التي تضج حركة. فرحة تعم الشارع.
الى المنزل غصبا عني لأنّن أعرف أن الاسئلة التى ستمطر فوق رأسي لا أعرف أيّ جواب لها سوى الكذب: “من غير الممكن ان تكون ثمة حرب بعد تحرير 2000”. لم اكن اعلم أنّ اسرائيل تريد أن تنتقم.
لم ننم ليلة 13 تموز 2006. على قلق قضينا اول ليلة تلاها 31 ليلة بين خوف ورجاء واشياء كثيرة أخرى. أهمها أننا كنا وحيدين في مكان لا يمكن للبناني جنوبي البقاء فيه.
أرسلنا حصتنا من الجهاد الى الجبهات وكانت حصتنا كبيرة نسبيا. نزلنا الملاجئ، بالطبع ليست ملاجئ مؤهلة للسكن، كانت اقامتنا قرب خزّانات المازوت الخاصة بـ(موتير) البناية في منطقة حارة حريك. نحن وعائلة مجاهد بعهدتنا وجيراننا الذين تركونا في الليلة الثانية الى مكان آمن.
حملنا من الطبقة العاشرة تلفزيوننا الصغير الذي صرنا نقدّسه. وافترشنا الارض قرب أصدقائنا الجرذان.
ضربت المقاومة الباخرة في عرض البحر، فخرجنا من الملجأ فرحين متأكدين أنّ الحرب انتهت. مشينا امتارا صوب مكاتب الامين العام التي دمرت كليا، لنطمئّن على أحد الاصدقاء. إذ كان صعبا ان نرى الحارس من بين الركام. لوّحنا له بيدنا مع حزن شديد ممزوج بابتسامة كاذبة.
عدنا الى ملجأنا. لا (دومري) على الطرقات. وحدنا نكزدر.. يمكننا الآن: اللعب، الضحك، الركض. لا شيء سيمنعنا الآن. سيمنعننا فقط غياب الفرح، والشباب ذهبوا الى الجهاد.
عدنا الى الملجأ، قضينا ليلة جديدة الى أن جاء من يخبرنا أنّ البنايات تهرّ هرّا كالزجاج..
قررنا ان نبتعد عن جيرة مجلس الشورى الى حيّ السلم. كونه، ورغم، أنّه يضم كل صنوف المستضعفين، سيحظى برحمة إسرائيل ليس حبّا بأهله، بل لأنّ اهدافها ليسوا من سكان هذا الحيّ.
ليلة.. ليلتان في حيّ السلم في شقة مهجورة داخل مبنى خال ايضا.. فأحبت اسرائيل ان تضرب المطار.. حملنا التلفزيون العزيز بسيارتنا، التي لا تتسع الا لشخصين، وقد ركبنا فيها مع العائلة التي بعهدتنا، وهي مؤلّفة من أم حامل في شهرها التاسع، وطفلتها التي تحمل على الدوام بسكلاتتها التي تلقتها هدية في 8 تموز، يوم عيد ميلادها؟ فمن أهم: نحن ام البسكلتات؟
الى دير قوبل حيث لا تقصف اسرائيل الدروز. الى بناء لا زال قيد الانشاء يملكه جنوبي حرقه قلبه على جماعته ففتحه علّ الوطن يتسع لهم.
الأيام الـ11 الأولى مرّت كالعلقم، لا شبابيك، لا مياه، لا شيء يوحي بالحياة لمن هو بحاجة للحياة، بل كل شيء يريد لك الموت. من الذين هربوا من الحرب الى خارج الجنوب وصولا الى الذين هربوا من الضاحية، صرنا 11 عائلة في طبقتين حيث لا شروط للحياة. ولا من يسأل عنا إلا عدد ضئيل جدا لا يتعدّى الثلاثة من الاصدقاء.
لا نملك ان نسأل عن مجاهدينا لاننا لا نعرف ارقاما هاتفية لهم. القلق يكاد يقتلنا خصوصا مع اخبار الاعلام اللبناني الذي يساعد اسرائيل في حربها احيانا كثيرة. ومنها المؤسسة اللبنانية للارسال التي احبطتنا في وقت كنا بحاجة الى ان نُكمل البقاء مع امل العودة الى المنزل سالمين مع مجاهدينا.
نذرنا النذور. ودعينا الادعية، صبرنا على الجيران الذين لا هم لهم كأنهم في مصيف متناسين اننا في حرب، واننا نمرّ بأقسى الايام. وما آلمنا هم الاصدقاء الذين ما علموا بظروفنا الصعبة.
لحق بنا بعض الاقارب الى مكان لجوئنا “السوبرديلوكس” وصرنا كثيرين لا نملك الا القليل القليل من الطعام والمال. كنا نتكل على الله. لم نهتم لنومنا على التراب، ولا لثيابنا الرثة، ولا لانقطاعنا من المال ولا لقسوة الاصدقاء، بل كل ما كان يهمنا هو سلامة مجاهدينا.
كان اتصالهم يُعيد إلينا الحياة. كانت بعض النسوة تتصرف كأنها في منزلها غير مبالية بنفسيتنا الهابطة ما دون الصفر في شهر حار ولاذع. كنا نخاف من الامل حتى لا تصيبنا الخيبة.
قصدنا “عاليه” علّنا نخفف عن بعضنا همّ الطعام والنوم لكننا عدنا ادراجنا خائبين لان ثمة وعود كاذبة ومنافقين خيّبوا آمالنا. عدنا الى “بنايتنا”. وللمرة الأولى شعرت بالذلّ حين دخل احد المندوبين ليقدم إلينا مساعدة مالية بسيطة. وهو جنوبي متمول – مشكور سلفا على حنيّته علينا – لكنه جعلنا نُدمع. فهو لا يعرف أنّ مجاهدينا بعيدون عنا، وأنّ المال لا يحلّ مشكلتنا ابدا.
الى عيتات، ومن ثم الى دير قوبل، ومن ملجأ الى ملجأ جديد.. من تنّقل الى تنّقل بسيارتنا الصغيرة التي لولاها لكنّا في خبر كان من التفجع، الى جمعيات ومؤسسات كاذبة لم نر لها وجها ولا مندوبين… ربما رحمة بكرامتنا.
فالله سخرّ لنا شخصا فقيرا لا يملك الا الكثير الكثير من الانسانية خلّصنا من ازماتنا التي مرّت علينا.
من جديد، تنقلنا ما بين جبل وجبل لكننا لم نلمح من هؤلاء الجبليين سوى سيدة جولانية رق قلبها فعرضت تضامنها.. الى ان اعلن وقف اطلاق النار، فكان الامل يعود بوجود من رفض مغادرة حارة حريك وانه لا زال حيّا بقدرة الله.
تهدّمت الأبنية في حارة حولنا كلها، وبقي حينا سالما وقد عرفنا من رنة هاتفنا، حين اتصلنا بالمنزل لنتأكّد من سلامته، انّه بقي صامدا.
يوم 14 آب نزلنا الى الحمرا لتوليد المرأة الحامل لكن البنت الشقية رفضت أن تأتي إلا بعد ان تطمئن على بطل من ابطالنا، فعدنا الى حيّ السلم حيث أرادت (نور) ان تبصر النور يوم النصر، ورفضت طيلة 33 يوم ان تربكنا. انها نور التي كان جزءا من قلقنا هو الخوف أن تولد على ارض ذاك البناء الهيكل حيث لا ماء ولا هواء، بل حشرات وتراب وجيران لم يهتموا يوما بجيرانهم الهاربين من القصف. فأيّ وحدة وطنية يتحدثون عنها؟ وأيّ وحدة اسلامية؟
فقط هو النفاق الاعلامي.
حضرت نور وحضر والدها منتصرا. عدنا الى منزلنا لنعيد الى العيش صوره التي صارت سوداء بلون صواريخ اسرائيل، ولون قلوب الجمعيات الخيرية ولون قلوب جيراننا في دير قوبل ولون من شمت بنا.
لكنّ نور أتت.
وعدنا نكنس درج البناية ونشطفها ونمسح الزجاج المكسور من على درج الطبقة العاشرة، الى الملجأ الذي لم يعد غريبا فقد ضمنّا ليومين.
لا وطن من دون ملجأ. فيا أهل غزة لا وطن لكم.. الا ملاجئ غزة.