مما لا شك فيه ولا ريب، من أنَّ دور الواعظ والمبلِّغ في ترسيم الدين والعقيدة والعبادة، وفي توصيفه وترسيخه في هوية المسلم، لهو امتداد لدور الأنبياء والرسل والأئمة المعصومين في دنيا الناس، وما أجمل الواعظ إذا كان عاملاً بما يعظُ به، وما أروع المبلِّغ إذا صدق قوله فعله، وما أجمل وأجلَّ الإثنين وأكرمهما إذا قُتِلا في سبيل ما يدعوان إليه إيماناً واعتقاداً.
ما أريد قوله، بسؤالٍ موجَّه لأصحاب العلم والفكر والوعظ والتبليغ، ونحن من المتعظين والمستمعين لكم، هل الجامع هو نفسه المسجد، أم لا؟ من خلال فهمي المحدود، هناك فرق كبير بينهما، فالجامع هو الملتقى بين جميع الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وافكارهم، من أجل التشاور في أمورهم الدينية والدنيوية، لأنَّ هناك ثمة فرائض لا يمكن تأديتها إلاَّ من خلال اجتماع إداري ينبثق عنه قوانين لحل المشاكل التي تكون عائقاً أمام الحياة، وينعقد دورياً في مواعيد محددة كيوم "الجمعة" وهذا ما عرف عنه في تاريخ الإسلام تحت إسم الجامع، وتكون خطبة الجمعة هي للتوعية والإرشاد إلى أمور الدين والدنيا، فتكون الأهمية في الجامع ليوم الجمعة هي خطبة الجمعة ذاتها، التي تكون معنية بمشاكل الناس وما يجري عليهم من بلايا وهموم، وخصوصاً أمام حفنة من محتالين سلبوا الحقوق من أبسط مقومات حياتهم، من ماء وكهرباء وطبابة وتعليم وحرية واحترام، لأنَّ آدم خليفة الله في أرضه.
ان فشلنا في مجالسنا البلدية التي هي من واجبها الديني والأخلاقي الاهتمام بمصالح أبنائها ومجتمعها، تحت حجة "مش قادرين نعمل شي" فلتترك لأصحابها من الذين يخافون الله والضمير. فلنحسن معنى "الجامع" ماذا عن البطالة؟ ماذا عن الطبابة؟ ماذا عن شوارعنا المحفَّرة والممتلئة قمامة؟ ماذا الاحتيال في أرزاق الناس وحقوقهم تحت عناوين دينية وسياسية؟ "واللماذات كثيرة وكثيرة جداً.! لا نريد أن يتحوَّل الجامع إلى آلة تسجيل ونحن آلات نصلي من دون وعي ومن دون تفكير، ولا نريد انفصاله عن واقعنا ومآسينا؟ مع المعذرة.وأما المسجد: فهو الأرض بأسرها تكون مسجداً مفتوحاً للصلاة والعبادة والخلوة مع الله سبحانه وتعالى، ويكون باستطاعة المسلم الاتيان بالصلاة ولو في المخدع والسرير أو تكون في الطائرة أو على ظهر سيارة، وتكون الأهمية هنا للعبادة ذاتها، فقال النبي محمد (ص): "جُعلت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً".
نحن اليوم ندخل عوالم لم تكن موجودة من قبل، ولا يمكن إنكار أثرها علينا اليوم من الاتصالات الفضائية إلى قوانين الحياة والتجارة العالمية، كلها تحتاج إلى أفكار وخطب توجِّهنا وتنظِّم علاقتنا بها، فالحياة ليست فقط محصورة ب"صلاة وعبادة" لأنَّ أديان الله كلها تحثُّ على الصلاة والعبادة، ولكنها تحثُّه أيضاً، وبالقدر نفسه على العلم والفهم بقدر متيقن يوازي أهمية الصلاة.. عسى الله أن يلهمنا حسن النية وصفاء القلوب.