لأنك في ذاكرة الكثيرين من أهل الوفاء والعلم والفكر،الذين يحملون نعشك في ذكراك الثانية على أوراق الدفاتر والدُسُر، وعلى الأكتاف المثقلة بمصاب الرحيل.
ولأنك في ذاكرتي أكثر من عالم ومفكر وفقيه وأديب ومقاوم لقضية فلسطين والمظلومين والمقاومين الذين ينتشرون دغشةً على دوربها تحت ضوء مئذنة الفلاحين والمزارعين وهم يصلُّون صلاة الفجر ودعاء الصباح تحت سماء الله، فكنتَ فيهم غيمة الله ودفئ الشجر.
للمرة الثانية، نسكبُ ما تبقَّى من داوة العين ومن حبرٍ على ضريح الورد، ونفتح من خصائص لحدك، نافذة على الحياة والعلم والفكر والشعر والأدب والجهاد، من الذين عرفوها وآتوها بقلوبٍ سليمة ومطمئنة، ولأنك أقرب المسافات من القلب إلى القلب، أحاول أن أرثي نفسي أيضاً، الضائعة بين أمارة وإمارة، وأنا أهرب معك إلى رحمةٍ تنجينا من عذابٍ أليم، وعلى قارب نجاةٍ من صنع المقاومين والمجاهدين، وعلى شراعٍ من أشرعة الجنوب المقاوم في جبل عامل.
للمرة الثانية، سنبقى على مهلٍ نبحرُ خلف نعشك المسافر، المتَّشح بضوء الفجر، وفوقنا سماء من النوارس المهاجرة إلى شواطئ الإطمئنان، ومفتشرة حروف القرآن، لتسكن آيات الرحمن، لربما يصحو الأحياءَ الموتى إذا ما انتبهوا، وربما يظنُ الأحياءُ أنهم يُشيعون الموتى، ولا يدرون أنَّ الأموات الذين يظنونهم نائمين في الصناديق، هم الذين يحملون نعوشهم، والبعض منهم يعتبر المقابر هي حيثُ تتواجد اللحود والشواهد ورميم العظام، ولا يعلم أنَّ المقابر هي مدن الفقر، وشوارع الجهل، وتفشي الأُمِّية، وأحياء البطالة، والمستقبل الضائع القاتم، وأوطان الغربة.
عذراً أيها الحبيب، إن غفا الحبرُ وخبا وهجُ الجمر والحبر في مواقد عيون شقرا وجبل عامل والوطن والعالم العربي والإسلامي، وما زلنا نعاين الداخلين من مقابرنا إلى جنات جنانهم، ونحن نفصِّل أكفانهم، ونبني أحجار برازخهم، ونردمُ لحودهم بتراب جلودهم، ونُسرعُ الخُطى عائدين إلى قصور زينتنا، ولا نهتم بيومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليمٍ وأتى الله بقلبٍ من تراب الفقراء.