من حُبّي للشيخ الأكبر، شيخ الصوفية محي الدين بن عربي، قدّس الله سرّه، أصبحتُ أؤمن بكلّ ما يقوله، وقد أخذتُ منه، على ما أدّعي وأظن، سُموّ الفكر والتعالي، والتعلّق بالمثال والكمال، فهاهو يعصم من كانت نفسه عاقلةً من دخول جهنم. فقد بشّرنا جميعاً بأنّ النفس الناطقة ،أي العاقلة،لا تدخل جهنم، إنّما تدخلها النفس الحيوانية. ثم ذهب أبعد من ذلك، فقال: بأنّ النفس الناطقة"، لو أشرفَتْ عليها (أي جهنم) لأطفأت لهيبها بلا شك". ولو تمعّنتَ في قوله، فرأيت أنّ البهائم، ذوات النفوس الحيوانية لا تدخل جنةً ولا نار. فآمنتَ معه بأنّ النفس الحيوانية المُشبعة بالشر، هي التي تدخل جهنم، وأمّا الناطقة، أي العاقلة، فلا تدخلها أبداً. لأنّ العاقل تعبَ في بُنيان هذه النفس، فشقيَ وآسى وهو يتعلم الحرف، وكيف يُجمع الحرفُ جنب الحرف، وأجهدَ نفسهُ وعقله، وهو يبحث في سرّ الوجود، ومعنى الخلود، ومعنى الألوهة، وأسرار الخلق، وما لا يُحصى من إشكالات. وصرف همّه لنشر الفضيلة ومحو الرذيلة. وتصفّح كُتب الأولين، ليأخذ منها عصارة الحكمة واليقين. واطّلع على سِير الأنبياء والأولياء، فتمحّص واختار أقومها وأتقاها، حتى صفت طبيعتُه، وانجلت سرائرُه، ونطق بالحقّ ما وسِعهُ جُهده، وابتعد عن الرذيلة ما أمكنه ذلك. أمّا من استولت عليه جهنم، أي طبيعتُه، أي سوداويتهُ وبغيُه، فعليه أن يعتصم بشريعته.ولا تحديد لتلك الشريعة، وإن كانت المحمدية أكملها عند إبن عربي، فباقي الشرائع تعصم من النار. وهذا يمنع القول: هذا كافرٌ مأواه جهنم، وهذا مؤمنٌ سكنُه الجنّة.
وبعد أن طمأنَ أصحاب الأنفس العاقلة عدم دخولهم جهنم، فتح لنا إبن عربي أبواباً جديدة في الجنة، فقسّمها الى ثلاثة أقسام: جنّة الإختصاص، وجنّة ميراث، وجنّة الأعمال. فأمّا جنّة الاختصاص، فهي التي ينالها المرء باختصاصٍ إلهيٍّ دون عملٍ يستوجبها، وهذه جنةٌ إلهية، يدخلها الاطفال ،ومن أهلها أهل التوحيد العلمي. ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل اليهم دعوة رسول ،ومن المستحقّين لها من يشملهم التوفيق للأعمال الصالحة في هذه الدار. أي أنّ من صرف عمرهُ في سبيل اكتشافٍ علميٍّ أو طُبيٍّ لخير البشرية، أو من نذر نفسه لخدمة الفقراء والمحتاجين، ومن تعلّم الطّب في كنف أهله المُنعَمين ،وهاجر الى مجاهل أفريقيا وآسيا، ليعالج المرضى ويكافح الأوبئة، فنصيب هؤلاء جنّة الإختصاص. أي أنّ الله تعالى يختصّهم بها.
ولعلنا من ساكنِيها يوم له الأمر من قبلُ ومن بعد، فقد تفرّقت أمّتُنا ثلاثا وسبعين فرقة، وكل واحدة تزعم أنّها الناجية، فمن أين لنا أن نظفر بهذه الناجية؟فلا يبقى لنا إلا ان يختصّنا الله برحمته ،فرحمتُه واسعة، وقد وسِعت كل شيء.