سواء اعتبرنا الدين رسالةً منزلةً سماوية أم فلسفةً بشريةً أرضية، فإن غايته الأساس هي وضع قواعد أخلاقية يتقيّد بها البشر من جهة وتشكيل دافعٍ روحي لتقبّل ما لا يمكن تغييره أو فهمه من جهةٍ أخرى إذ أننا كبشرٍ نقابل خلال حياتنا ما ليس لنا طاقة على تحمّله او استيعابه، فيأتي الدين ليخفّف الآلام ويقدّم الإجابات للأسئلة التي تفوق قدراتنا المحدودة. ويؤدي الدين بمضمونه الروحاني/الفلسفي هذا دوراً مهماً وإيجابياً على الصعيد النفسي للمؤمنين، وهو حاجة قد يفتقدها غير المؤمنين ويحسدون المؤمنين عليها في أوقات المحن و المصائب.
وبقدر ما يمكن للدين ببعده الروحاني هذا إفساح المجال لحياةٍ أكثر سكينةً وهدوءً وخيراً ومحبةً، يقابله وجهٌ آخر للتديّن أقلّ إشراقاً، لكن أكثر شيوعاً وانتشاراً بلا أدنى شكّ في بلداننا العربية والإسلامية يتمثّل في النزعة التقليدانية والمفهوم الطقوسي والعجائبي للدين؛ ومن الخصائص الأساسية لهذا النمط من التديّن التسليم التامّ وغياب العقلانية والروح النقدية. وفي حين يمكن اعتبار التديّن أو عدمه حريةً شخصيةً بحتة، إلا أن تبني هذا النمط من التصرفات والتفكير في الحياة العمليّة اليوميّة قد تكون نتائجه كارثية على مستوى الأشخاص كما على مستوى المجتمعات والدول.
وقد يكون أخطر وجهٍ لهذا التوجه الذي يتمّ تبنيه من قبل سواد المؤمنين إفراغ الدين من مضمونٍ أساسي كان على مدى آلاف السنين المحرّك الأول في تأمين انتشاره واستمراريته ألا وهو مفهوم الثورة على الظلم والطغيان والإستبداد واللامساواة والطبقية والعنصرية وغيرها من الأنماط والعادات الإجتماعية السيّئة؛ ففي حين أن فكرةَ الثورة على الباطل محوريةٌ في الدين إلا أنها تراجعت بل حتى اندثرت مع تقدّم الشكليات والطقوس الى الواجهة الأمامية: وهكذا صار المسلم "الحقيقي" في مجتمعاتنا يهدر طاقته وقدراته ووقته في الإهتمام بلحيته ولباسه وكيفية الوضوء ودخول الحمام وخروجه والتحكّم بنساء عائلته اللواتي يمثلن "شرفه" و"عرضه" وتفسير الأحاديث التي قد تكون بمعظمها غير دقيقة وإن صحّت فكثيرٌ منها لا يتناسب والإطار الزمكاني الذي نعيش فيه. فالكثير من المسلمين اليوم قد يقضون ساعاتٍ في نقاشاتٍ عقيمة وجدالاتٍ بيزنطية لا فائدةً ترجى منها وحتى غير قابلة للتطبيق في عالمنا اليوم، وهم قد يهتمون بعدد الإماء اللواتي امتلكهن الرسول أو بطرق الجماع المستحبة أو غير المستحبة أو غسل الأقدام واليدين ابتداءً من الأسفل أو الأعلى أكثر من إهتمامهم بذبح آلاف المسلمين في سوريا على يد سفاح العصر بشار أسد مثلاً، وقد تدبّ فيهم نخوة الإسلام إن رأى أحدهم خصلةً من شعر أخته أو كاحل زوجته ولكن صور الأرامل والأطفال المشرّدين في خيام التهجير لا تستثيرهم، وإن أزعجتهم، فهم سيكتفون بالدعاء لهم عسى الله أن يرسل لهم معجزةً تنقذهم مما هم فيه. وفي موسم الجفاف وقلة الأمطار، لا يكمن الحلّ في دراسة الأسباب التي تساهم في التغير المناخي والحدّ منها وإيجاد الحلول المستدامة، بل يتهافت جموع المؤمنين لأداء صلاة استسقاء قد تؤدي الى فتح أبواب السماء! وأما الزلازل، فهي عقابٌ ربّاني لنتذكر كبشرٍ أننا خطّاؤون وان يوم الحساب آتٍ لا محال، فتمتلئ مواقع التواصل الإجتماعي بأدعية الزلازل والإستغفار بدل مناشير كيفية التصرّف والإحتماء عند حصول هكذا كوارث أو الطرق المثلى لمواجهة نتائجها. وقد يكون أسوأ وجهٍ لهذا الخمول الفكري أن معظم المؤمنين لا يسألون حتى عن الأسباب التي قد تدفع الله حامل صفتَي الرحمن والرحيم الى الإنتقام من أشخاصٍ نائمين لم يتسببوا بالأذى يوماً أو أطفالٍ رضّعٍ لم يروا شيئاً من الدنيا بعد!
إن هذا التديّن الأبله والإستسلام المستفّز للماورائيات والأساطير ليس وليد الصدفة بل عمليةً ممنهجةً تستخدمها الجماعات الدينية والأنظمة الحاكمة لتعطيل العقل بهدف تحويل الجماهير الى قطعان لا تهتم إلا بالإحتياجات الجسدية الأساسية من أكلٍ وشربٍ وجنس وترى أنّ أيّ نقاشٍ أو كلام في الأمور الأكثر عمقاً قد يهدّد استقرارها وأمنها فتتجنبه صوناً للقمة العيش وتمنّي النفس بالخلاص يوم الآخرة، فلا عجب إذاً من تحوّل الدين والتديّن الى أبرز حليفٍ للإستبداد والطغيان في عالمنا العربي والإسلامي.