تابع اللبنانيون تواصل الحملة الإعلامية على بهاء رفيق الحريري مع تحرّكه لعَـقـْدِ ورشة عمل سياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية واسعة مع أهل الاختصاص في جزيرة قبرص، فإذا بهم أمام غرفة عمليات سياسية وإعلامية تُنتِج مقارباتٍ شبه موحّدة جرى توزيعها على مجموعة كُتّاب في عدد من المواقع الالكترونية، فإذا بهم يتداولونها لتظهر مثل نُسخ الكربون، بأسماء إعلاميين وآخرين يتلطَّون بمواقع هامشيّة تحمل صفاتٍ دينية، بينما هم يتقاطعون عند وَسْوَسَةِ المصادر فيوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القولِ غرورا.
أراد المتربصون ببهاء الحريري أن يُحوِّلوا نشاطه اللبناني في قبرص إلى عمليةٍ استعراضية مفـَرَّغةٍ من المعنى ومن الفعالية، وشاؤوا تصويرها على أنّها شكلٌ من أشكال الاستعلاء التي يمارسها الرجل الذي لم يزر بيروت ولم يأتِ إلى ضريح والده، وطرحوا سلسلة عناوين منها أنّه يسعى لـ"انتزاع المُلك" من أخيه سعد الحريري وغيرها من طروحات عفا عليه الزمن.
الصمتُ البنـّاء مقابل الضجيج المفتعَل
لم يصدر عن بهاء الحريري أيُّ بيانٍ أو موقف حول اجتماعاته في قبرص، بل إنّ الصمت المقصود ما زال سائداً لديه، فهو يريد التركيز على برنامج العمل، ولا يريد الانزلاق إلى الاستدراج نحو الاشتباك الإعلامي، فهذا أحد أهداف من قرّروا افتعال إشكالات سياسية استباقية، فبدؤوا إطلاق النار الإعلامي والسياسي عليه فور بدء تحرّك الوفود للقائه، لعلّهم يصيبون منه مقتلاً في السياسة.
يريد هذا الفريق تبديد الجهود التي يبذلها بهاء في ترتيب أولوياته على ضوء ما سبق أن خاضه من تجربة محدودة قبل وخلال الانتخابات النيابية الأخيرة، وما استخلصه من دروس حول كيفية إدارة الشأن التنظيمي والإنمائي والإعلامي والمالي، وتحديد الثغرات التي ظهرت وتنقية الصفوف ممن سقطوا في امتحان الثقة، ووضع معايير الشفافية والكفاءة الشخصية وفي القدرة على حسن التواصل مع الناس.
التصحيح من صفات الناجحين
يعتبر البعض أنّ بهاء الحريري فشل في تجربته الأولى عشية انتخابات 2022 وأنّ ثغراتٍ ظهرت في فريقه الذي تولّى تلك المرحلة، وفي هذا تضليل لأنّه لم يخض تلك الانتخابات وإن بقي بعض الأفراد على بعض اللوائح ممن نسبوا أنفسهم إلى حركته السياسية، لكنّهم لم يكونوا في الواقع جزءاً من العمل الذي ساد في الانتخابات، عندما اكتفت حركة "سوا للبنان" بإطلاق حملة إعلامية للتوعية ودعم المعارضة.
ولا شكّ أنّ ثغراتٍ قد حصلت، وأنّ هناك بعض من تولَّوا المسؤولية لم يكونوا أهلاً لها. لكنّ المراجعةَ والتصحيح ميزةٌ بنّاءةٌ وليست عيباً، فكلُّ عمل سياسيّ يتعرّض للاختراق والاستهداف، والعاقلُ من وعى هذه الحقيقة وعمل على سدّ الثغرات وتصويب المسار.
في المقابل، إذا قمنا بمقارنةٍ سريعة بين مستوى الفشل الذي الذي وقع في مسيرة بهاء وبين مجموع الفشل الذي ارتكبه سعد، فلا يمكن أبداً المقارنة بين الحالتين، فالفساد الذي مارسته حاشية سعد في مختلف المجالات، جعلت كثيرين من أفرادها أصحاب ثروات بات بعضهم ينافس فيها الرئيس الحريري في مجال الثروة، وهذا نِتاجُ التخبّط الهائل الذي ساد طيلة تولّيه المسؤولية.
كانت ثغرات عمل الرئيس سعد الحريري مغطاة بالوفرة المالية العربية وبالغطاء الدوليّ وبالعاطفة الغامرة وبشعور التضامن العميق الذي حمله أهل السنة وأغلب اللبنانيين نحو قضية الشهيد رفيق الحريري، لكنّ الوقت وعوامل التعرية السياسية أزالت هذه الأغطية لتبقى الثغرات هي السائدة، وليؤدّي كلّ هذا إلى خروج سعد من المشهد عبر تعليق نشاطه السياسي.
مقاربة "انتزاع المُلك":
ملك مُضاع لم يحافـَظ عليه كالرجال
تحدثت بعض عناوين استهداف بهاء الحريري أنّه يريد انتزاع الملك من أخيه سعد.
والسؤال هنا: عن أيّ مُلك يتحدّث هؤلاء بعد سقوط المملكة واندثار معالمها وفقدان أهلها، وخراب مؤسساتها، فلم يبق منها سوى ذكرى تثير الأسف والغصة على مُلك لم يحافظ عليه من تولاّه كالرجال، فإذا بمن بقي حوله يتباكون عليه كالنساء!
أخطر أنواع الغياب حقّقه سعد في قمّة السلطة
يأخذ المتربِّصون على بهاء الحريري أنّه لم يزُر بيروت ولم يأتِ إلى قبر والده.
وإذا استبعدنا العامل الأمني الذي لا يمكن استبعاده على بيت طالته يد الاغتيال، فإنّ الاحتمال الوارد هو أنّ بهاء يعمل على إنضاج قدومه إلى لبنان داخلياً وخارجياً، ومن الواضح أنّ خصومه الفعليين هم هذه الطبقة السياسية الفاسدة كلّها، وليس فقط أخوه سعد وحاشيته أو المتضرِّرون من نواب سابقين يحسبون كلّ صيحة عليهم، ويفضِّلون تعطيل الحياة العامة لأهل السنة على أن يعمل فيها من لا يريدون له التقدّم.
الأمر الأكثر استغراباً هو أنّ هؤلاء الخصوم المعلومين المجهولين، يتجاهلون أنّ الرئيس سعد الحريري جسّد أخطر حالات الغياب والفراغ وهو في قمّة السلطة، عندما دخل في الصفقة الرئاسية مع صديقه جبران وتنازل لميشال عون عن صلاحيات أساسية لرئاسة الحكومة ومنها وضع جدول الأعمال، فكان بذلك رمزاً للعجز والغياب.
ثمّ ألم يكن لبنان بالنسبة للرئيس سعد الحريري فندقاً يأتي إليه عندما يكون في السلطة ويهجره عندما يخرج منها، ألم تكن هذه سيرته على مدى السنوات الماضية، لذلك، ليس لحضوره أيّ معنى خاص بالالتزام والانتماء والتضحية، بل كانت سنوات عجافاً خسر فيها أهل السنّة حلفاءهم في الداخل الوطني وفي الخارج عربياً ودولياً.
وعن زيارة قبر الشهيد رفيق الحريري، فهي لا شكّ عاملٌ معنوي وعاطفي كبير، سبق استغلاله طيلة الأعوام الماضية، لكنّ ما يشفع لبهاء أنّه حافظ على أمانة أبيه فلم يعبث بإرثه ولم يستهلكه في مسار التنازلات أو استعطاف الناس في مواسم الانتخابات، والدعاء وعمل الخير يصل إلى الشهداء ولو فصل بينهم وبين أهلهم الزمان والمكان.
أمّا مسألة الاستيلاء على الإرث السياسي، فإنّ بهاء يأتي وقد ذهب هذا الإرث أدراج الذكريات، وقد استنفد استغلال دم الشهيد رفيق الحريري فترته الزمنية، لا بل إنّ سلوك التنازلات طال هذه القضية أيضاً وأفرغها من مضمونها، وعلى بهاء أن يتعمد على نفسه في إثبات حضوره السياسي، مع التأكيد بأنّه ليس باستطاعة أحد أن يشطبه من قيد رفيق الحريري الوالد والشهيد.
لا إرث إذاً ولا ورثة بل امتحان لا ينجح فيه إلاّ من يتمسّك بالثوابت فلا يضيعون البوصلة، وهذا موجّه أيضاً إلى من يتذرّعون برفضهم لحركة بهاء بأنّهم يرفضون التوريث السياسي.
مصارحة مع بهاء الحريري:
اللبنانيون تعبوا من التجارب وينتظرون الأفعال
ينبغي مصارحة بهاء رفيق الحريري بأنّ أهل السنة وأغلب اللبنانيين تعبوا حتّى من الأحلام، وفقد كثيرون منهم الرغبة في التفاؤل بسبب حجم الخيبات التي تعرّضوا لها، لذلك، فهم يرقبون ما تصنع بشيء من البرود وعدم الانتظار، وهذا يكشف حقيقة المأساة التي يعيشونها، لكنّهم بدون شكّ يريدون أن يتقدّم من يمتلك الكفاءة والقدرة على العمل لمواجهة صقيع هذا الفراغ المخيف، ولتأمين التوازن المفقود في المعادلة الوطنية فهو أساس أيّ إنقاذٍ منشود.