إذا كان الشعر هو "لغة الغياب" كما قال بعضهم، فإنَّ الموت هو "غياب كامل" يكفي أو كفى بهذا الغياب أن يكون باعثاً ومفجِّراً للطاقات الأدبية والنثرية والمرثية للشعر، ويكفي هذا أيضاً لصناعة الأسطرة والأسطورة، لأنَّ فقدان الشيء، أو نفس الفقد، هو المساحة والفضاء الواسع الذي يجعل النفس تسبح وتُسبِّح فيها المشاعر والأنس والحب حتى تصل إلى كل أنواع التبجيل والتمجيد والمدح والمديح، أو كما قيل ـ كل مفقود مرغوب ـ لأنَّ طبيعة النفس البشرية تلهو عمَّا هو موجود بين أيديهم، والغائب أو المفقود هو مرغوب ومنشود، فالذي يفقد شيئاً من يديه سواء كان طفلاً أو شاباً أو كهلاً، تاقت نفسه إليه، ولعلّ هذا من الضروريات بل البديهيات. فالنظرة للموت عند البشر مختلفة كاختلاف الألوان، وخصوصاً عند الفلاسفة والمتكلمين، إسلاميين وغيرهم، دينيين وغيرهم، وفي الثقافة العربية يحتل الموت حظاً وافراً في أدبياتهم وأشعارهم، حتى ترى صوراً في المرثيات التي صنعها الشعر العربي والجاهلي باقية في العقول والنفوس، بحيث أصبح الموت هو أيقونة مقدَّسة، تعزف هذه السيفونية على كل أحد. هنا، وبعيداً عن النظرة الإيمانية للحياة ما بعد الموت، نتحدَّث عن فكرة الموت الذي عبَّر عنه الفلاسفة هو انعدام الشيء، والعدم لا يوصف بالجميل أو السعيد، بل هو شرٌ بذاته دون أي لحاظ، ولهذا قالوا بأنَّ الوجود خيرٌ من العدم، فمهما اختلفت المراحل والمراتب في الحياة كالفقر والجوع والمآسي والمرض، وتردي الأوضاع المعيشية والإقتصادية والسياسية، يجعل الموت جميلاً، فمن أين للقائلين الدليل على أنَّ الموت مع هذه الصراعات يجعل الموت موتاً جميلاً، إلاَّ إذا أوجدوا قاعدة غير عقلية أو عقلائية تدل على هذا المدَّعى، أو يكون استحساناً وتخرُّصاً بلا دليل. وأما الذين ذهبوا من المفكرين والفلاسفة أمثال الفيلسوف والأديب والشاعر ( أبو العلاء المعرِّي) الذي لا يرى في الوجود إلاَ الشر، وإنَّ الحياة شقاء وإنَّ الإنسان مفطور على الفساد، كان من الضروري عنده الخلاص من كل هذه المتاعب براحة الموت، حتى أنه كان ينزعج من الذي يدعو له باستمرار الحياة، فقصيدته المعروفة الذي أنشد فيها: دعا لي بالحياة أخو وداد / رويدك إنما تدعو عليّا. وفي أخرى: مصائب هذه الدنيا كثيرٌ / وأبرها على الفطن الحِمام.. كان لشخصية أبي العلاء جوانب مختلفة، مع العلم أنه أصيب بمرض الجدري، وهو في الثالثة من عمره فافقده بصره، ومع ذلك أبدع بالعلم والمعرفة والشعر والأدب والفلسفة، إلاَّ أنه لا تخلو شخصيته من عدم التوافق والتكامل، وإذا صح ما تدعيه النظريات النفسية الحديثة بأنَّ للنواحي الجسمية تأثيراً واضحاً على النواحي النفسية، وهذا ما سبب له اضطراب بشخصيته وضعفها وتشاؤمها، وأنَّ الشر في الحياة غالب، فمع ذلك فوجوده خير من عدمه، إذ كان عالماً ومنتجاً ومساهماً في تطوير الفكر العلمي والأدبي واختط لنفسه منهجاً في الزهد والتقشف، وكره الرياء والتزلف والتملق والمصانعة، إنها شخصية قلقة ومقلقة، تراه من جهة متشائماً لذا هو لم يتزوج وليس له أولاداً، وكان يحب العزلة عن الناس، ومن جهة ثانية كان متديناً مواظباً على الصلاة ومسلِّماً أمره لله رب العالمين.. وأيضاً الروائي والفيلسوف الفرنسي صاحب النظرة العبثية ـ ألبير كامو ـ الذي عاش في بيئة شديدة الفقرمن أب فرنسي، قتل والده بعد مولده بعام واحد في إحدى معارك الحرب العالمية الأول، ومن أم إسبانياً مصابة بالصمم، فهذه الشخصية أيضاً عانت الفقر والحرمان منذ الطفولة، فأخذت دوراً كبيراً وتأثيراً شديداً في حياته، حتى اختط لنفسه منهجاً في العبثية، وكانت نظريته نظرية العبثية، ومع ذلك فهو فيلسوف وأديب وكاتب مسرحي عبثي رائع، ومقاوماً فرنسياً أثناء الإحتلال الإلماني، ومن أهم ما أنتجه من روايات ـ الغريب ـ الموت السعيد ـ وغيرها كثير، فالإنسان الذي يعيش بلا أي معنى وهدف فهو عبثي في الحياة فموته أو انتحاره هو الموت السعيد بحسب روايته " الموت السعيد" فأمثالهما لو قدر لهما أن يعودا إلى الحياة لكان وجودهما خير من العدم... الموت أو الموت السعيد أو الموت الجميل، كلها روايات آثمة، وهنا ليس الإثم هو الذنب، أو المعصية أو الشرك، بل هو الإثم الخاطئ، فذلك قوله في القرآن الكريم: (فمن خاف من موصٍ جَنَفَاً أو إثماً ـ البقرة ـ 182) تعني: عمداً أو خطأً.