حفظ تاريخ لبنان الحديث والمعاصر لغبطة البطريرك الراحل مار نصرالله صفير، تفانيه في سبيل القضية الوطنية اللبنانية، والتي كانت الشغل الشاغل للّبنانيّين تحت نِير الوصاية السورية على لبنان، فوقف وقفته التاريخية بوجه هذا "الإحتلال" المُقنّع، كما حفظ تاريخ لبنان وسيحفظ لهذه القامة الرفيعة والنادرة، أنّه لم يتقلّب في متاهات السياسة وأحابيلها، ولم يُفرّط في سيادة الوطن، ولم يتزلّف لأحد، ولم يسعَ وراء مجدٍ شخصي، أو مصلحة طارئة، ولم يُتقن لغة التسويات والتبريرات، ولم يعرف تدبيج الحُجج الواهية، وكان جريئاً في تأييد وقف الحرب الأهلية عبر اتفاق الطائف أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتعرّض في سبيل ذلك لتلك الهجمة الشنيعة التي قام بها أنصار الجنرال ميشال عون في الخامس من شهر تشرين الثاني عام ١٩٨٩، عندما اقتحموا الصرح البطريركي في بكركي، واحتلوه وعبثوا بمحتوياته، وحطّموا بعض أثاثه، ونزعوا صور البطريرك صفير، ورفعوا بدلاً عنها صور الجنرال عون، ولم يتورّعوا عن إهانة البطريرك ودفعه والعبث بمقامه، وهو يُردّد عبارات: الله يبارك..الله يبارك، وسُمع أحد المعاونين للبطريرك وهو يقول بعد انحسار العدوان: كان البطريرك يبكي، واضطرّ بعد ذلك إلى مغادرة ما كان يُطلق عليه حينذاك "المناطق المحرّرة"، فكان يوماً أسود مشهوداً في تاريخ البطريركية المارونية.
رحل البطريرك صفير إلى جوار ربّه، وخلفهُ غبطة البطريرك مار بشارة الراعي، واليوم مع الأزمات المستعصية التي يشهدها لبنان بعد ستّ سنوات من عهد الرئيس السابق ميشال عون، والذي شهد انهياراً شاملاً على كافة الصُعد، فضلاً عن التفريط في سيادة لبنان واستقلاله، بفضل تحالف حزب الله مع تيار الرئيس عون، ها هو الصرح البطريركي يفتح أبوابه اليوم على مصراعيه، ليستقبل صباحاً رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ومساءً الرئيس السابق ميشال عون بالحفاوة والتكريم والتبجيل، يا لِمُفارقات الزمن، وأعاجيب السياسة وأباطيلها، التاسع من شهر كانون الأول يومٌ أسود آخر في تاريخ البطريركية المارونية.