أطلقَ الرفض الاسرائيلي لتعديلات لبنان على مشروع الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية سيلاً من التفسيرات والتوقعات والتكهنات، حول ما سيؤول اليه مصير هذا المشروع من الآن وحتى نهاية الشهر الجاري، حيث تنتهي ولاية رئيس الجمهورية وتبدأ انتخابات الكنيست في إسرائيل، وكذلك الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة الأميركية.
يقول أحد الديبلوماسيين المخضرمين ان لا أحد يستطيع معرفة ما سيكون عليه مصير الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل لأن الخلافات الداخلية في إسرائيل كبيرة جدا على أبواب انتخابات الكنيست، حيث ان منافسي رئيس الوزراء يائير لابيد الذين يتزعمهم رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو يتناوبون على المزايدة عليه واتهامه بالتنازل لـ»حزب الله» والخضوع لتهديداته في موضوع الترسيم «ما يعرّض مصالح اسرائيل الاقتصادية والأمنية للخطر»، ما دفعه إلى مواجهتهم بالإعلان عن رفض تعديلات لبنان والايعاز الى الجيش الاسرائيلي «للاستعداد لتصعيد عسكري» محتمل على الحدود مع لبنان.
لكن الولايات المتحدة الأميركية، وبحسب هذا الديبلوماسي، دخلت على الخط بقوة، مشددة على وجوب توقيع الاتفاق على الترسيم قبل نهاية الشهر الجاري قبل ان ينشغل الاسرائيليون في الانتخابات ولا تعود لديهم أي جهة تملك صلاحية التوقيع، فيما الأميركيون سينغمسون في انتخاباتهم النصفية وسط منافسة شديدة بين الحزبين «الديموقراطي» و»الجمهوري» فينعَدم عندئذ اهتمامهم بهذا الملف وحتى بقضايا عالمية كثيرة إلى حين الانتهاء من هذه الانتخابات.
ويعتقد الديبوماسي نفسه انّ لابيد وجد نفسه مُرغماً على التشدد في الموقف من الملاحظات اللبنانية لعله يتمكن من كبح جماح منافسيه في الانتخابات خصوصا ان لبنان قدم تعديلات على مشروع الترسيم وليس ملاحظات، ما أعطاه حجة للتردد او الرفض، ما أدى إلى وقف هذا المسار، على الاقل ظاهراً، واستدعى الامر تدخلا أميركيا للدفع إلى الاستمرار على نحوٍ بَدا معه ان الاميركيين يشكلون رأس حربة في هذا الموضوع ومن خلفهم الاوروبيين الذين يريدون الاستفادة من غاز البحر المتوسط على أبواب الشتاء لتعويض الفاقد الروسي من الغاز بسبب الحرب الروسية الاوكرانية، علماً ان شراسة المعارضة الاسرائيلية جعلت ملف الترسيم يراوح بين «القمحة والشعيرة» من دون ان تظهر لها نهاية حتى الآن.
ويشير الدييلوماسي المخضرم إلى أن المتفائلين يرون ان الادارة الاميركية ستعالج الأمر مع الاسرائيليين وتعيد مشروع الاتفاق على الترسيم بينهم وبين لبنان إلى جادة التوقيع قريباً، لأن واشنطن كانت لبّت مطلب الاسرائيليين بعدم توقيع الاتفاق النووي مع إيران بعدما كان وزير الخارجية الاميركي أنطوني بلينكن جزم في ان بلاده ستوقّعه، وذهب إلى حد عدم استقبال مستشار الأمن القومي الاسرائيلي عند زيارته الاخيرة للعاصمة الاميركية قبل أن تتخذ بلاده القرار بعدم التوقيع هذا. ولذلك، فإنّ الأميركيين اعطوا الاسرائيليين ثمنا مسبقا لتوقيعهم ترسيم الحدود مع لبنان في مقابل تعهد لابيد باتخاذ موقف ايجابي مسبق من هذا الأمر. وفي رأي هذا الدييلوماسي ان نتنياهو، الذي لا تؤيّد واشنطن عودته إلى السلطة في اسرائيل، يُزايد انتخابيا وسياسيا على لابيد ويحاول تخوينه بغية تحقيق الكسب الشعبي في الانتخابات. ولكن لن يكون له فوز فيها لأنّ استطلاعات الرأي تظهر حتى الآن تقدم لابيد عليه، وذلك على رغم من اتهامه لابيد بأنه يتراجع أمام مطالب لبنان و»حزب الله»، علماً ان الاخير كان يقول انه سيوقع الاتفاقية من دون الرجوع إلى الكنيست لاقتناعه أنّ هذا التوقيع سيدخل في مسار طويل إذا لم يحصل قبل الانتخابات.
ولذلك، يقول الدييلوماسي، ان الاتفاق على ترسيم الحدود إذا لم يوقّع من الآن وحتى نهاية الشهر الجاري فإنه سيتأخر أربعة أشهر على الاقل، ولكن إذا فاز نتنياهو وحلفاؤه في الانتخابات فحينئذ قد لا يكون هناك ضمان بأنهم سيوقعون هذا الاتفاق الذي يرفضونه الآن. وعلى رغم من كل هذه المعطيات يستبعد الديبلوماسي المخضرم نشوب حرب على الجبهة الجنوبية اللبنانية في حال عدم توقيع اتفاق الترسيم، أولاً لأنّ الاسرائيلي لا يمكن أن يشن حرباً من دون ضوء أخضر أميركي، وثانياً لأن الاستراتيجية الأميركية الآنية والمستقبلية هي «إصلاح الامور» بين العرب وإسرائيل، وبالتالي لا مصلحة لواشنطن بنشوب حرب في المنطقة من شأنها ان تخرب هذه الاستراتيجية.
على أن أحد المطلعين على الموقف الاميركي يرد سبب ما آل اليه ملف الترسيم البحري الى انّ مساعد وزير الخارجية الاميركي ديفيد شينكر الذي كان في وقت سابق وسيطاً في هذا الملف هو مَن دخل فجأة على الخط لتخريب مشروع الاتفاق قبل توقيعه لأنه لا يؤيده، وذهب إلى التصريح لبعض وسائل الإعلام الأميركية وأطَلّ فجأة من Washington Institute ليقول ان هذا الاتفاق لا يخدم مصلحة اسرائيل ولا يحمي امنها، وانه يشكل تنازلا من الإدارة الأميركية أمام «حزب الله». ويقول هذا المطّلع على الموقف الاميركي انه يريد نسف الاتفاق «لأنه لم ينسَ كيف عَطّل فريق الرئيس ميشال عون «اتفاق الإطار» الذي كان قد توصّل اليه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وذلك بغية سحب ملف الترسيم من يد الاخير بحجّة ان لرئيس الجمهورية دون سواه صلاحية التفاوض لعقد المعاهدات الدولية، واتبعوا ذلك بتوريط قائد الجيش جوزف عون في طرح الخط ٢٩ على اساس انه خط حدود لبنان البحرية الجنوبية، وذلك في محاولة لإحراقه كمرشح رئاسي جدي امام الأميركيين وغيرهم، ثم ما لبثوا ان تراجعوا عن هذا الخط إلى الخط ٢٣ الذي كان بري وشينكر قد اتفقا عليه ضمن «اتفاق الاطار». وفي رأي هذا المصدر ان غاية فريق عون من هذا التصرف كانت اولاً سحب ملف الترسيم من يد بري، والمساومة مع واشنطن على سحب العقوبات الأميركية عن رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، وسحب قائد الجيش كمرشح جدي لرئاسة الجمهورية.
يبقى ان الايام المقبلة بما ستشهده من تطورات ستحدّد مصير اتفاق الترسيم ومآلاته خصوصا ان الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين يعمل على الخط بين لبنان وإسرائيل بدفعٍ من إدارة الرئيس جو بايدن، المُصرّة حتى الآن على توقيع الاتفاق قبل الاستحقاقات اللبنانية والإسرائيلية والأميركية المنتظرة بدءاً من مطلع الشهر المقبل.