مهلاً، ليست الاجواء الايجابية التي شيعت في أعقاب وصول العرض الاميركي - الاسرائيلي حول ترسيم الحدود اللبنانية البحرية، واقعية أبداً. الانتخابات المرتقبة في لبنان واسرائيل، وحتى في اميركا، في الاسابيع القليلة المقبلة، عقبة حقيقية، تكبر يوما بعد يوم، بدل ان تتقلص. والصفقة المنشودة، وهي بالتعريف غير المتداول، أهم بكثير من تقاسم حقول النفط والغاز في قعر البحر، ومن أن تترك لحكومات تصريف أعمال..
العرض الخطي الجديد، وهو الأول من نوعه منذ بدء التفاوض الثلاثي، ينهي أو يفترض أن ينهي الى حد بعيد، التكتم اللبناني غير المفهوم، وغير المبرر، حول تطور تلك المفاوضات التي كانت، من حيث المبدأ، تحظى بشبه إجماع لبناني، وبالتالي لا تستدعي ذلك الشعور بالحرج او العار، من تبادل أطراف الحديث مع العدو، عبر الوسيط الاميركي. وربما صار المطلوب اليوم، وبإلحاح، كشف النص الكامل لذلك العرض المكون من عشر صفحات، وطرحه على الرأي العام اللبناني لمناقشته وإبداء الرأي فيه..تماما كما يفعل الجانب الاسرائيلي، الذي بدأ بتسريب النص الى جمهوره، وشرع في نقاش علني حول فكرة الدعوة الى استفتاء شعبي حول الصفقة مع لبنان، قبل التوقيع النهائي عليها. وهو نقاش لا تحفزه المعركة الانتخابية الاسرائيلية فقط، لكنها يمكن ان تكسبه بعداً سياسياً إضافياً.
ولأن الثقة مفقودة في السلطة اللبنانية، التي أدخلت البلد في سلسلة لا متناهية من الانهيارات، نتيجة الصراعات الحادة بين أطرافها، ثمة يقين عام، بأن مفاوضات ترسيم الحدود مع العدو الاسرائيلي، التي شهدت منذ انطلاقتها الكثير من الاخطاء والتحولات والتراجعات المحيرة، لن تؤدي سوى الى سقطة لبنانية جديدة، يمكن ان تهدد الثروة النفطية المفترضة، مثلما أهدرت بقية الثروات الوطنية، طوال السنوات الست الماضية.
صحيح ان هناك تقديراً شائعاً في الغرف المغلقة، بأن الصفقة البحرية، يمكن بل يفترض ان تكون الحجر الاساس لاعادة بناء الدولة اللبنانية ومدّها بأهم أسباب الحياة، لكن هذا التقدير مبني على وهم بأن العدو الاسرائيلي والوسيط الاميركي، مهتمان ومعنيان بإحياء الدولة اللبنانية، في هذه المرحلة بالذات، ومن دون ان يطالبا بثمن سياسي للصفقة الاقتصادية، بل يمكن ان تقدمانها كهِبة للبنانيين، من مؤسسة خيرية لا تبغي الربح.
لعل الوقت غير مناسب، لإثارة فكرة الثمن السياسي المطلوب من لبنان، مقابل حصوله على حقوقه النفطية البحرية، لا سيما وأن الجانبين الاسرائيلي والاميركي ألمحا أكثر من مرة الى الافق السياسي الذي يمكن ان تفتحه تلك الصفقة، لكنهما أختارا عدم حرق المراحل، والمراكب، والتركيز على إلحاح الحاجة المتبادلة للحصول على الثروة، من دون التسبب بأي تفجير سابق لأوانه في الداخل اللبناني. لكن المؤكد أنهما لم يكتبا نص العرض الاخير ولم يقدما أيا من العروض السابقة، سوى من تلك الخلفية، التي تهدف الى إختبار لبنان وإستعداده لتوقيع معاهدة سلام ، ولو بعد حين.
ما افصحت عنه إسرائيل في الساعات التي أعقبت وصول العرض الى لبنان، لا ينفي هذه الخلفية، بل لعله يثبتها، خصوصا ما ورد على لسان رئيس الوزراء الاسرائيلي يئير لبيد وكبار المسؤولين الاسرائيليين، عن تقاسم عائدات حقل قانا، الذي يفترض ان الاتفاق نهائي على أنه يخضع للسيادة اللبنانية التامة. وإذا ما صدقت تلك الروابة الاسرائيلية، التي لم تقابلها حتى الآن رواية لبنانية مضادة، يعني أن اسرائيل لم ترسل مع الوسيط الاميركي عرضاً "إيجابياً"، بل زرعت لغماً بحرياً في مسار المفاوضات.. وكذا الامر بالنسبة الى بقية المواقف الرسمية الاسرائيلية التي هلّلت للورقة الاميركية وإعتبرتها نصراً سياسياً ناجزاً ومكسباً كبيراً للمصالح الاسرائيلية. وهو ما لا يمكن ان يكون مجرد خداع للناخبين الاسرائيليين، او مجرد سجال مع المعارضين الاسرائيليين للصفقة النفطية "المجانية" مع لبنان.
تفكيك ذلك اللغم الاسرائيلي ممكن، شريطة ألا يتم التعامل اللبناني معه كذريعة يستخدمها العدو لتأجيل الصفقة الى ما بعد31 تشرين الأول الحالي، بل كمحاولة لفرض أمر واقع جديد على "المنظومة" اللبنانية المقبلة.. التي لن تكون مدعوة للرد على السؤال عن الثمن السياسي لترسيم الحدود البحرية الجنوبية.