أكثر ما يثير حفيظتك وأنت تشاهد واعظاً موظَّفاً من قِبَلِ سلطة هي بنظر الكثيرين من الناس ـ فاسدة ـ ومشاركة بقصد أو بغير قصد إلى إفلاس وسرقة البلد ووضع أكثر الشعب اللبناني تحت خط الفقر بأمتار، وضياع مستقبلهم ومستقبل أولادهم، بالإضافة إلى سرقة أموالهم وتعبهم وجنى أعمارهم، وأكثر ما يدهشك وأنت تسمع وعظه بأنَّ القيم تحتشد بكثرة في فمه، بحيث تندلق الأخلاق دلقاً، واللوم على الناس الطيبين والفقراء والمحرومين، تقريعاً ولوماً في فمِ عابدٍ لم تلهيه تجارة أو بيع عن الله سبحانه وتعالى. حريٌّ بك بأن توجِّه مواعظك إلى الطغاة والأقوياء الذين يملكون الأطيان والعقارات والسيارات والأثاثات والبنايات، ويملأون البنوك والمصارف في الدول الغربية من تعب الناس وأقواتهم، إن لم تمجدهم وتُسبِّح بحمدهم، وتعدهم بجنة عرضها السماوات والأرض، وتلتمس لهم العذر والتبرير والعلل لأفعالهم، فللأقل لماذا السكوت؟؟.
هؤلاء الناس الذين تعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولزلزلت الأرض تحت أقدامهم لمجرد أنهم قاموا باستقبال رجلٍ هو في نظرهم ليس مفسداً، بل محسناً لهم، فهو بنظرك مفسد، وبنظرهم محسناً، تناسيت ونسيت قول أميرك علي (ع) ما نُسب إليه أنه قال: (مَن أحسنَ إليَّ وأساء إلى الناس سمَّيتُه مُحسناً، ومَن أساء إليَّ وأحسن إلى الناس سمَّيتُه مُسيئاً) أو عين ما أشار إليه وحذَّر منه الإمام (ع) بقوله:(عجباً للسلطان كيف يُحسن، وهو إذا أساء وجد مَن يُزكِّيه). يا سماحة الواعظ، وإني لناصح لنفسي أولاً ولكم ولأمثالكم ثانياً، والله ليس لي مأرب شخصي بقدر ما نريد أن نضع الإصبع على الجرح، هؤلاء الناس طيبون، وما آلت إليه الأوضاع تجعلنا وتجعلهم مكلَّفين بجهد وتعب، ويرجى استبدالهما أو التخفيف عن الفقر المطبق والمطقع، طلباً لراحة قليلة أو منَّةِ ضيئلة، لكن المشكلة والتي هي الأساس، من أنَّ الحاجة والفقر والبؤس يتحدَّى كل فضيلة يا صاحب الفضيلة، فهؤلاء ونحن أيضاً منهم، نداري، نماري، ونداجي، وربما قد يقع المرء في السرقة أو يعتدي لتخفيف هذا الوحش المفترس الذي إسمه ـ فقر ـ حاجة ـ دواء يا شيخ ـ ماء يا واعظنا ـ والتي فرضته الظروف القاسية من تلك الطغمة الرئيسة الفاسدة الظالمة، أما أن نهوِّل على المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا يستطيعون حيلة ولا وسيلة، التي ظلمتهم أولاً الدولة، وثانياً الأقوياء والزعماء في السلطة، فنخوفهم من نار جهنم التي تشوي الوجوه والأفئدة، ونسكت نحن وأنتم عن أصل البلاء، فلعمري هذا عين ما حذَّر منه القرآن الكريم بقوله تعالى: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا...) والنبي محمد (ص) قال:( لقد هلك الذين كانوا قبلكم إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). قد نقع يا سماحة الواعظ في الظلم من حيث لا نشعر، نسكت عمن أوصلنا، أولاً إلى الوظيفة، وثانياً إلى ما آلت إليه الأوضاع المزرية قد تجعلهم يدارون من أجل لقمة عيش، إذ ليس من الإنصاف أن ننسب هذا الفعل القهري والإجباري، أو ننسب الأنانية والحسد للفقير والعامل والمحتاج، ثم ننسى ذلك النمط الغريب من التهافت والتكالب والتهالك على الدنيا وملذَّاتها من قِبَل الأثرياء والمُتمولين من أصحاب النفوذ والأموال والقصور.
لربما ترشدنا يا سماحة الواعظ، فيما لو قلنا بأنَّ رفع العبء والفاقة والمشقة عن كاهل الناس، وجعلناهم يشعرون بأنَّ مصالحهم مطابقة لمصالح المجتمع والبلد لصاروا مواطنين صالحين وتركوا اهتزاز الأرض من المجالس التي تريد طرد الإفساد والفساد والإجرام. فالفقر والمصيبة والحاجة كلها تتحدَّى الفضائل والأخلاق، لأنها تورث صاحبها درجة من الإنحطاط والتذمُّر والتي تكتسح أمامها كل شيء، عذراً من هذه الإطالة والنصيحة لأنفسنا، لربما تكون مشكلة الوعظ الذي نمارسه والدور الذي نقوم به، قد يكون خلاف الطبيعة البشرية، فنحرِّض هؤلاء الناس ونستنهضهم للتضحية بمصالحهم الخاصة في سبيل مصالح أخرى، ناسين أو متناسين بأنَّ المصلحة الخاصة هي الأساس في الطبيعة البشرية، وإنها إذا تناقضت مع مصلحة أخرى فذلك أول الفساد، وبداية خراب الديار وفساد ضمائر العباد، وهذا هو عموم السنن والقوانين ـ لا يهمنا الإستثناء ـ لأنَّ القاعدة لا يلغيها الإستثناء ـ كما يقولون ـ عسى الله أن يلهمنا حسن النية وصفاء القلوب.