تعاليت يا إلهي علُّواً كبيراً، وتاهت العقول في بحار جلالك، وحارت الأذهان في لألاء جمالك، وزاغت الأبصار عن كنه عظمتك، واحتجبت الأنظار عن القلوب والأبصار، وأنت يا إلهي الظاهر في خلقك وآثار نعمائك، إنك على كل شيء قدير. .لقد عرض الغزالي مثالا رائعا يوضح فيه موقفه من الحرية الإنسانية في كتاب(الإحياء) تصور أن أحد الذين غمرهم الله بألطافه نظر إلى الكاغد وقد رآه مسود الوجه بالحبر فحاول أن يفتش عن علة السواد فأحال الكاغد على الحبر والحبر على القلم، والقلم على اليد واليد على القدرة.....
وهكذا حتى نودي من وراء حجاب(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فغشيته الحضرة الإلهية واعتذر وقال انكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار والفاعل المختار أما أنتم فمسخرون، وتحت قهره وقدرته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن...
لقد أخذتني المخيلة إلى شيءٍ رائع، وغمرتني السكينة والطمأنينة في الروح، سأناجيه وأكشف عن خفايا نفسي، لعلني اهتدي إلى سواء السبيل، سبيل العلم والمعرفة والعيش والرزق، ولكن شتَّان بين الواقع والحلم، والحلم والواقع، تماماً، كالفرق بين الدراية والرواية، فالدراية كتاب، والرواية سرير الأحلام، وما زلت منغمساً في تحصيل هذي السُبُل بكل شغفٍ وحرارةٍ وإيمان، وأحببتها من كل قلبي حبا كبيراً، لأنها أيقونة الخلاص، وشراع من أشرعة النجاة إلى شواطئ الإطمئنان، لكي يصحو الأحياء الموتى إذا ما انتبهوا، وينتابني جمود في القلب كلما قرأت رواية أو تأويل آية أو قاعدة، لأنني أرى الله في كل كلمة أقرؤها من رواية أو قاعدة تريحني من عبء التكاليف، لأنها ملاذي للهدوء والسكينة، وما زالت مفتوحة على الروح والغيب والجن، ومقفلة على فلسفة الحياة وفهم الوجود، تماماً، كالوضوء تهيُّأ للصلاة، ففرقٌ بين أن تغسل عينيك وفمك وقلبك وتتوجَّه إلى المحبوب وتعلنه هذا الحب الطاهر، وبين غسل اليدين إلى المرفقين والوجه والقدمين والقُبُل والدُبُر، فإنه حب الرياضة والعادة، وبهذه المعادلة كانت الآذان تأنف من سماع الآخر، حتى سيَّجت نفسي بأسلاك التَّعبُّد الذي لا يمكن لأي عاقلٍ وعقل أن يدرك المناط والعلة، فاستأنست بالنوم على اليقين، وغارقاً في بحورها من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي، ودائماً كنت منقطعاً للعبادة ولا أغادرُ مجلس ذكر ومذاكرة أو مجلس علم أو حلقة درس عند الأستاذ، لأجمع العلم والعيش والرزق من كل طرف، ولمعرفة الحكمة من مظانِّها لأكون القدوة وخصوصاً في سيماء الوجه التي تدل على الإيمان.. بقيت واقفاً في هذه الساحة اللألآءة دهشاً مبهوتاً يملؤني شعور طاغٍ بالحسرة والأسى (وكأيِّن من دابَّةٍ لا تحملُ رزقها الله يرزقها وإيَّاكم ـ العنكبوت ـ 60) حاولت عبثاً أن أخترق هذا النور الساطع الذي يفجِّر كل شيء، ولكنني لست رسَّاماً ولا شاعراً فأسجِّل ما أنا فيه من بهجةٍ وحبور، ولكن من يدري؟ حتى لو كنت شاعراً ملهماً لتمرَّدت عليَّ حروف اللغة، فهربت مني لحظة واحدة، هنا تذكرت قول الله تعالى عندما أخذ على مشركي مكة بأنهم (يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً في السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون ـ النحل ـ 73) توجهت بالسؤال: لماذا يملك الله تعالى للبعض دون البقية، وخصوصاً طلبة العلم، لربما فاقدي الشأنية، ولربما لحكمة خافية!. وربما لأنهم ليسوا كذلك؟ فما قولكم بالفقراء المعدومين من المؤمنين أنفسهم فضلاً عن غيرهم؟ ولماذا الله يُحتكرُ في الرزق في البعض، وتتركون من يطوفون مع أولادهم وعيالهم على صناديق التسوُّل والقمامة، عساهم يجدون فيها ما يمسك رمقهم، لقد ذكرتمونا بالحديث الشريف: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً ـ جائعة ـ وتروح بطاناً ـ بطونها ممتلئة بالطعام ـ صدقتم بمعنى التوكُّل، هو أن تأكل أو تؤكل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يرزق بعضاً، وأما الباقون فليبلغوا الهواء الهواء وليذهبوا إلى الجحيم، فلا اعتراض؟ فلا تيأسوا أيها الفقراء المعدومون والمحرومون، فالبلد بخير والأمة بخير، فلا صراع بين البشر، ولا نزاع بينهم من أجل تأمين الحد الأدنى من العيش والرزق، الذي يكاد يمسك الرمق، فلا تقلقوا فأنتم في عزة، فلا فساد في الأرض، فما ترونه من بغي الناس بعضهم على بعض من أجل تحصيل لقمة العيش، ليس بغياً، إنه من خداع البصر والبصيرة.