ليس خفياً أن زيارة اسماعيل هنية إلى لبنان، ليس غرضها بحث التواجد الفلسطيني ومعالجة قضاياهم المعيشية مع السلطة اللبنانية، بل هي في عمقها أمنية تأتي في سياق التخطيط والتنسيق مع حزب الله، لخلق جبهة عسكرية ضد إسرائيل تكون إيران مرجعيتها القيادية، ولوضع اليد على المخيمات الفلسطينية بعد تعزيز قدرات حماس العسكرية، وتمكينها من إحراز تفوق وهيمنة فوق باقي التنظيمات الأخرى، بمن فيهم فتح وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية.
هذه معلومة تداولتها أكثر وسائل الإعلام وأكدت مضمونها تصريحات هنية المباشرة والمبطنة حول غرض زيارته لبنان. ما فعله هنية ليس جديداً أو غريباً على منطق حماس، التي لا تتعدى استراتيجيتها تكديس الأسلحة، وتضخيم عدتها الصاروخية، مع غياب كامل لأية رؤية أو خطة فعلية لتحرير الأرض، أو إحراز تقدم في وضعية القضية الفلسطينية، أو تحسين ورفع مستوى عيش الفلسطيني في الشتات.
حماس الذي تعاني فيها منطقة نفوذها (غزة) لأسوأ مستويات العيش، سواء أكان من القمع القاسي الذي تمارسه ضد المعترض عليها أو المختلف عنها، أو التردي الهائل في تأمين أقل الخدمات الضرورية لسكان غزة. فشروط الحياة عندها ليس المهم، والوضع الإنساني مسألة ثانوية.
حماس بلا مسار ومن دون سياق، تختار معاركها وحملاتها الصاروخية بطريقة اعتباطية من دون أي أفق سياسي، ومن دون أي مسار تراكمي. تفعل ذلك فقط لتنتزع زمام المبادرة من منافسيها الداخليين، ولتعلن انتصارها وتحتفل به مهما كانت عواقب حملاتها وحجم الدمار عليها وعلى ساكني منطقة نفوذها، فخطاب الانتصار جاهز دائما قبل حملاتها العسكرية، وغزواتها صاروخية ليست أكثر من استعراض احتفالي وكرنفال إعلامي فوق ركام مدينة مدمرة.
ترفع سقف أهدافها غير آبهة للفجوة الهائلة بين ما يمكن أن تفعله وما تطمح أو تعد بتحقيقه. فالشرعية التي تدعيها لا تكمن في إنجازاتها وإنما في رفع السقوف عالياً، وإطلاق الأهداف المستحيلة. فالربح ليس في جدوى العمل ونتائجه وإنما في صلابة الموقف وثباته. هي صلابة تجعلهم بنظر أنفسهم رجال الله وأنصاره، ما يخولهم استحضار الغيب والمقدس بكل عدتهما الاستنهاضية والتحريضية والتعويضية.
تقيم حماس منطقة نفوذ لا اعتراف بها ولا شرعية دولية لها. لا هيكلية دولة في داخلها، ولا عمل مؤسساتي يدير أمورها. هي منطقة نفوذ فقط، قطاع سلطة لتنظيم غايته القصوى البقاء والاستمرار، أي هو غاية لنفسه وغرض بذاته، ولا شيء ورائه أو بعده.
لا تريد للقضية الفلسطينية أن تتحول إلى كيان سياسي أو تتوحد في مرجعية سياسية، بل تؤثر الأشلاء والفتات والتبعثر على الكل الجامع. تقيم لحسابها الخاص علاقاتها الدولية وتحالفاتها العسكرية، لأنها تريد اختطاف الواجهة واحتكار صدارة النطق وأولوية التعبير عن القضية الفلسطينية.
تختزل حماس قضية شعب بصاروخ متفجر وبعيد المدى حين تعتقد أن حملاتها الصاروخية التي تشنها في مواسم متباعدة هي التي تبقي القضية الفلسطينية حية ونابضة. غير آبهة بشروط الحياة ونوعيتها التي يفترض أن يعيشه الفلسطيني، وغير مدركة أن القضية الفلسطينية قضية إنسان قبل أن تكون قضية أرض، قضية كيان جامع قبل أن تكون كتائب ملثمة، قضية دولة قبل أن تكون حركة وتنظيم، هي قضية هوية قبل أن تكون جبهة عسكرية، والأهم من ذلك هي قضية أخلاقية قبل أن تكون قضية دينية أو حتى سياسية.
باختصار هي قضية إنسان بكل أبعاده الوجودية والقيمية. زيارة هنية إلى لبنان كسرت كل الأعراف والبديهيات. جاءت لتؤكد وجود مسار إقليمي فوق الدولة وعابر لها. إعلانه من لبنان عن ولادة جبهة أو تمتين لجبهة مواجهة، هو إعلان عن أن لبنان أرض بلا شعب وبلا دولة، هو ساحة تنظيمات وميليشيات لا بلد قانون وسيادة، هو أرض الأقوى عسكريا والأشد بأساً، لا وطن ذو خصوصية تاريخية وثقافية يجب عليه أن يدخل لبنان من خلالها. تعلن حماس من لبنان، تسليم القضية للمرجعية الإيرانية، واعتزال المجال العربي وحتى الخروج منه تعلن حماس من لبنان، تسليم القضية للمرجعية الإيرانية، واعتزال المجال العربي وحتى الخروج منه.
هي بذلك لا تمتن جبهة المواجهة مع إسرائيل بقدر ما تتبنى هوية وحقيقة مغايرتين لهوية وحقيقة وتاريخ فلسطين نفسها.
الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها حماس بحق القضية الفلسطينية نفسها، هو عودتها إلى بيت الطاعة السوري نادمة تائبة. هو تنازل عن الجوهر الأخلاقي الذي يجعل قضية فلسطين قضية إنسانية وعالمية، وقضية حية في ضمائر الأحرار والشرفاء. حين تتصالح حماس مع النظام السوري، وتتناسى الملايين من ضحايا هذا النظام، من قتلى وجرحى ومهجرين، فإنها بفعلتها هذه تمارس طعنة بحق القضية الفلسطينية نفسها، لأنها تعطي المسوغ الأخلاقي وحتى القانوني لإسرائيل، في ممارسات القتل والتهجير والتشريد التي مارستها على مدى عقود بحق الشعب الفلسطيني. فالجريمة واحدة، والذنب واحد، والإدانة واحدة.