أصدق وأبلغ توصيف للمشهد السياسي، والحكومي ضمنه، ما تفكّه به أحد ظرفاء السياسة في هذا البلد، حينما سأله محدثوه رأيه في المعارك السياسية التي تُخاض من خلف منابر الانقسام الداخلي؟
جواب السياسي المذكور، جاء على شكل «فضفضة» عمّا يحتقنه صدره من حنق مما بلغه حال البلد بهمّة من يفترض انّهم حريصون عليه، ويستهلّ كلامه بصدم محدّثيه بقوله: «أوّل مرة في حياتي أشعر بأنني أعيش في زمن المسخرة».
ثم يسهب ساخراً من الصراع السياسي الذي سبق وواكب الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة، ويقول بـ«العربي الدارج»: «فعلا شرّ البليّة ما يُضحك، بِتحسّْ حالك عم تُحضَر مسرحيّة تهريج بايخ، الابطال فيها كَوْمِة عرسان؛ عريس من هون، وعريس من هونيك، واهل العِرْسَان من هون وهونيك، دابكينها ببعضُن، وعم يدافشوا بعضُن البعض على عِرْسْ بَلا عَرُوس.. يا جماعة قبل «المدافشة» على العرس، قولولنا وين العروس؟! تقاتلتوا على الاستشارات، وساعة بدّكن فلان وساعة بدّكن علّان، وغرّقتو البلد بشروط ومطوّلات ومحاضرات ومواصفات.. كلو ماشي الحال، بس في حدا منْكُن يقلّنا وين الحكومة، وفيكُن بهذا الجوّ تْألفوا حكومة.. أعوذ بالله .. العروس هربانة»؟!
وبنبرة يعتريها قرف يوصّف المشهد ويقول: «ما رح فينا نكمّل هيك.. مع كلّ استحقاق عنّا «شغلة بال»، وكلام طالع نازل، و«نَخَاوي» وعنتريات على بعضُن البعض، وضحك على النّاس. وكلّن ضدّ السلطة.. وغالبيّتُن، إذا مشْ كلُّن، كلّ عمرُن مع السلطة، ومرتزقين من السلطة، وهلّق قاعدين بيسبّوا وبيشتموا بالسلطة.. حدا يشْرَحلنا ليش هيك».
«والأنكى من هيك»، يضيف، «إنُّنْ كلّن مَعُنْ حقّ، هيك بيقولوا. ولأنّو الحكي ببلاش، بيتغنّوا بالوطنيّة، وبيتعاملوا مع الوطنية وكأنّها مشاع أو شقفة ارض صادروها وسجّلوها بإسمُنْ واستملكوها، او كأنّها سلعة مشتريّينها من شي دكّانة مثل شي علبة محارم، وبيصيروا يوزعوا شهادات بالوطنية، حتى بطّلنا نعرف شو معنى الوطنية، كلّ واحد عندو وطنيّتُو الخاصة فيه، وبيخونوا بعضن، وبيقدموا حالُن على إنّن عنوان الوطنية الخالصة، وملايكة وقديسين واولياء صالحين ومعصومين.. طيّب على مين الحق، على النّاس؟! أو انّو الناس المساكين والمنكوبين المحروق سلّافُن صاروا هنّي الشياطين»؟!
وبالنبرة ذاتها يتابع قائلاً: «قلنالن أكثر من مرّة، يا جماعة تواضعوا شوي، البلد ما بيمشي بالمناطحة، شوفوا الناس وين صارت، شوفوا البلد وين صار، كلّنا واقفين على رَدْمْ، شو بعد بدكن؟ ولوين بدكن توصلوا»؟
ويمضي قائلاً: «عِمْلتوا من الانتخابات النيابية حرب داحس والغبراء، وخدعتوا الناس بوعود كبيرة، وبعد الانتخابات طلعت وعودكن اوهام، وجرّصتوا بعضكن.. صارت المعركة بس على مين هو الأكبر، هيدا بيقول انا اكبر واحد، وهيدا بيقول لأ مش انت، انا أكبر واحد.. وإجو جماعة التغيير .. اهلا وسهلا، طيّب، أخذوا حجمن.. وبعدَين؟ قلنالن تعوا لنقلب الصفحة، ونفتح صفحة جديدة، وبطّْلوا تتشاطروا على بعضكن البعض، خلوّنا نتفق لحالنا شي مرّة على مصلحة البلد. ما بدهن يسمعوا.. بيردّوا عليك بالتطبيل والتزمير؛ بتفتكر حالك عم تحكي مع بشر، بسّ مع الطبل والزّمر بتلاقي حالك عم تحكي مع منافخ نازلة عم تنفخ بحالها، ومن كتر النفخ صارت رح تبجّ.. وبتقلّلي رح يبقى بلد»؟!
ويتابع قائلا: «طيّب خلّصنا الاستشارات، وتكلّف نجيب ميقاتي من جديد، والزلمي مدّ إيدو ليشكّل حكومة تقدر تعمل شي ببلد مهتري، فبيردّوا عليه بالحكي طالع نازل، وبعض المراهقين مش مصدّقين حالن، مبهورين بالكاميرات وبْيِتْرَقْوَصُوا وبيهرّجُوا على الشاشات وبْيِشْتْمُوا وبيرموا كلام اكبر مِنُنْ، وشعارات مبهبطة عَلَيُن، لا بيعرفوا لا قانون ولا دستور ولا تركيبة بلد ولا توازناته ولا تاريخه، وشو مرق عليه من مصائب وبلاوي، وبدّن رئيس حكومة على قياسُن، وبدّن حكومة تحارب كل الناس.. بعد ناقصو البلد.. شو هالمسخرة»؟!.
هذا التوصيف الذي يسقطه السياسي المذكور على واقع البلد بصورة عامة، وما أحاط استشارات التكليف من جلبة سياسية وتباينات واشتراطات ومزايدات ومكايدات، بقدر ما هو طريف في جانب منه، فهو يحدّد أيضاً مكمن الداء، ويعبّر عن وجع ويأس من وضع مَرَضِيّ ألمّ ببلد، أسقطته فيه ما يعتبرها السياسي عينه «عقليات سياسيّة تصارع نفسها، ومنخرطة بالصّراعات الداخلية والخارجية، ومسيّرٌ بعضها، حتى لا نظلمها كلّها، بالهمس في آذانها من الداخل ومن وراء البحار، وثبت للقاصي والداني أن لا قيامة لهذا البلد مع معاداتها له، واستمرار تناقضاتها وانقساماتها وأجنداتها. أمام هذا الواقع لا أتردّد في ان أصرّح بأنّ قلبي يعتصره الحزن على هذا البلد، فلقد مرّت على لبنان محطات وأزمات كثيرة، ولم يسبق لي ان خفت من الآتي علينا بقدر ما انا خائف في هذا الزمن الأسود.. خلاصة الكلام ما بدهم بلد.. عنجد الله يعين الناس ويعين البلد».
بعد هذه الفضفضة يُسأل السياسي: هل بات الأفق مقفلاً بالكامل على أية حلول او معالجات؟ وهل انّ اي حل منتظر بات يتطلب صدمة تعيد الناس الى صوابهم وترغمهم على هذا الحل؟ فيسارع الى القول: «أفق الحلول مسدود حتى يثبت العكس، وأكثر من ذلك، كيف يمكن لهذا الأفق أن يفتح، في ظلّ علاقات كاريكاتورية بين مكونات البلد السياسية وغير السياسية، يحكمها توازن مفقود، وانسجام وهمي، وتضامن مُدَّعَى، وتكاذب علني لا مثيل له، وتحت كل ذلك حقيقة ساطعة، حيث لا يُعرَف مَن مع مَن، ومَن ضدّ مَن، والكلّ كامنّ للكلّ، والكل ينتظر الكلّ على الكوع، حتى لم تعد في الكوع مساحة للوقوف عليها».
ويضيف: «واما بالنسبة إلى الصدمة، فأي صدمة اكبر من الصدمة التي تضرب لبنان منذ نحو ثلاث سنوات، وجعلت اللبنانيين متساوين كأسنان المشط لا فرق بين لبناني وآخر الّا بمقدار ما يعتريه من وجع وجوع وفاقة وقلق وخوف وذعر مما تخبئه له الأزمة، ومن ان يصل إلى لحظة يذوب فيها بلد لا ملاذ له سواه، وأخشى ان تقترب هذه اللحظة ويُمحى عن خارطة الوجود نهائياً، فلبنان في هذه الفترة يزحل من مكانه، وقمة الغباء والجنون إن اعتقد أحد أنّه سينجو بنفسه ويكون بمنأى عن هذا المهوار».
ولكن، أليست ثمة نافذة امل؟
يجيب: «الواقع الداخلي بلغ أسوأ مرحلة مرَضيّة بالمعنى السياسي والوجودي، وأنا اكذب على نفسي إن قلت إنّ للتفاؤل مكاناً في هذا الواقع، فأنا خائف وأكثر من متشائم، وما استطيع قوله هو اللهم لا نسألك ردّ القضاء بل نسألك اللطف فيه».
ويضيف: «ما بلغناه لم تعد تنفع معه مسكّنات او «بنج» موضعي، بل بات يتطلّب جراحات جذرية وسريعة، يبقى ألمها أخفّ من الآلام التي تنتظرنا. وممهدات هذه الجراحات، تبدأ بمبادرة مكونات البلد جميعهم - وهذا ما كان يجب ان يحصل قبل ان يسقط البلد في هذا الدرك الأسفل - إلى مراجعة نقدية لكلّ ما جرى، وإعادة قراءة تفصيلية للمرحلة الماضية وللسنوات الاخيرة تحديداً، واستخلاص العِبر مما جرى وإعادة ترتيب الاولويات على هذا الأساس، لإعادة إحياء الأمل بإمكان هزيمة الأزمة وإنقاذ بلدنا. فهذه هي النافذة الوحيدة الباقية امامنا. ولكن كيف يمكن لهذه النافذة أن تُفتح مع عداوات وخصومات سياسية وعقليات متحجّرة لا حياة لمن تنادي فيها، وينطبق عليها المثل القائل: فالج لا تعالج»؟!
في خلاصة كلام السياسي المذكور جملة قصيرة ترسم صورة ملبّدة عن الاستحقاق الرئاسي، حيث يقول: «يُخطئ من يعتقد أنّ الاستحقاقات الداخلية منعزلة عن بعضها البعض، وبالتالي كل ما نشهده في هذه الفترة مع الاستحقاق الحكومي ومعركة تأليف الحكومة الجديدة، يبقى غيضاً من فيض ما ينتظرنا مع حفلة الجنون التي تتحضّر منذ الآن لمعركة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية».