أهمية استحقاق التكليف تكمن في رمزيته المزدوجة: توحيد صفوف المعارضة وانتزاع مبادرة التأليف، الأمر الذي لم يتحقّق، فيما معظم القوى السياسية تعاملت مع هذا الاستحقاق بكَون حدوده هي التكليف الذي لن يُفضي إلى تأليف.
عكسَ استحقاق التكليف بدقة متناهية تعددية مجلس النواب المُشكّل من مجموعة أقليات نيابية تلتقي أو تبتعد عن بعضها تبعاً لكل استحقاق وملفّ، وفي حين كان الرهان على تكرار سيناريو انتخاب رئيس ونائب رئيس مجلس النواب في استحقاق التكليف، إلا انّ حسابات مكوّنات المعارضة اختلفت على 3 مستويات أساسية:
المستوى الأول، يتعلّق بمن لا يريد تكرار اصطفاف انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه، ويعتبر نفسه خارج الاصطفافات، وذلك على رغم معرفته انّ هذا التموضع يُفقده قدرة التأثير والتغيير، ولكنه يفضِّل الحفاظ على تَمايزه بانتظار تبلور ظروف أخرى تَجنّباً لتصنيفه ضمن انقسام قديم عُرف سابقاً بـ8 و 14 آذار، وهذا ما يفسِّر اتخاذ هذه المجموعة قرارها في اللحظة الأخيرة تجنّباً لإعطاء اي انطباع عن تنسيق وتعاون مع مكونات أخرى.
المستوى الثاني، يتربط بالكتلة النيابية السنية المُدرجة ضمن إطار الشخصيات السنية المستقلة والسيادية والتي ترى انّ الرئيس نجيب ميقاتي يمثِّل الوزن الشخصي والسياسي القادر على إعطاء الرئاسة الثالثة الشرعية والمشروعية على أثر تعليق تيار «المستقبل» مشاركته في الحياة البرلمانية وغياب نادي رؤساء الحكومات.
المستوى الثالث، يتصل بمَن أراد المُزاوجة بين الصفات الشخصية والبرنامج السياسي انطلاقاً من كون الخلاف القائم هو خلاف سياسي بين مشروعين ولا يجوز تأييد شخصية على حُسن سيرتها ومسلكها فقط، إنما تأييدها يجب ان يستند إلى رؤيتها الوطنية من النقاط التي تشكل حالة انقسامية، الأمر الذي لم ينطبق على السفير السابق نواف سلام الذي يُعتبر الصامت الأكبر في استعادة لصورة الرئيس الياس سركيس، ولكن يبدو انّ صمته يرتبط برغبته باستمرار التداول باسمه من دون ان يكلّف في مرحلة انتقالية لا يمكن ان تشهد تحسيناً في الأوضاع المالية وكل التركيز فيها على الحدّ من الخسائر بانتظار ان يُعاد إنتاج كل السلطة، خصوصاً انّ تكليفه قد يؤدي إلى حرق فُرصَه المستقبلية.
ولكن في الوقت الذي توجّهت فيه الأنظار الى الجسم المعارض، لم يُمنح موقف الجسم السلطوي حقه من النقاش، خصوصا انّ الثنائي الشيعي الذي وضع كل ثقله في الانتخابات الداخلية لمجلس النواب، لم يضع الثقل نفسه او انه لم يكن قادراً على ذلك في استحقاق التكليف، ما يعني ان أكثرية النصف زائدا واحدا هي أكثرية متحركة لا ثابتة، وتبعاً للملف المطروح على بساط البحث. وبالتالي، لماذا تقصّد «حزب الله» عدم تظهير التنسيق في هذا الاستحقاق؟ وهل ثمة قطبة مخفية بين مكونات هذا الفريق؟ وهل يتجنّب الحزب مقاربة التكليف مع النائب جبران باسيل كي لا يعتقد الأخير بأنه يُسلِّفه حكومياً لينتزع منه ورقة رئاسية؟ وهل يفضِّل استمرار حكومة تصريف الأعمال بعيداً عن صراعات التأليف وانقساماته الوطنية والطائفية والسياسية من أجل حسن التمهيد للانتخابات الرئاسية ومتفرعاتها الحكومية؟ وهل يعتبر انّ تكليف الرئيس نجيب ميقاتي في سياق تحصيل الحاصل ولا يريد استفزاز الطائفة السنية في مرحلة التحولات الداخلية التي تشهدها؟
وأصبح من الثابت عملياً انّ معظم القوى السياسية تنظر إلى هذه المرحلة بكونها انتقالية وانتظارية، وأقصى ما يمكن تحقيقه إبّانها هو تجميد الانهيار لا معالجته التي تستدعي إعادة إنتاج كل السلطة ودخول البلاد في مرحلة سياسية جديدة، وبانتظار ان يتحقّق هذا الهدف فإنّ جُلّ ما هو مطلوب تمرير الوقت بأقل خسائر ممكنة.
وقد أكد الرئيس ميشال عون للنواب في يوم الاستشارات الطويل أنه سيغادر موقعه عند انتهاء ولايته، ولكن هل سيشهد القصر الجمهوري مراسم تسليم وتَسلُّم بين السلف والخلف لم تحصل بعد اتفاق الطائف سوى مرة واحدة بين الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، فيما الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون انتُخبا بعد فترة من الفراغ الرئاسي؟ وبالتالي هل سيتكرّر هذا الفراغ ام انّ التسليم والتسلُّم سيحصلان للمرة الثانية في زمن الطائف؟
وإذا كان انتخابا الهراوي ولحود قد حصلا في زمن النفوذ السوري، وانتخابا سليمان وعون قد حصلا في زمن الانقسام بين 8 و 14 آذار، فإنّ انتخاب الرئيس المقبل سيحصل في ظل خريطة سياسية جديدة وميزان قوى نيابي تعددي يصعب على أي فريق ان يحسمه لصالحه من دون التحالف أو التقاطع مع تكتلات وشخصيات نيابية أخرى، ولكن مع فارق انّ فريق 8 آذار غير القادر على الحسم رئاسياً يرتكز على نقطتي قوة: القدرة على تعطيل النصاب، وهذه الورقة غير متوافرة للفريق الآخر، والقدرة مبدئياً على جَمع ما بين 55 و60 نائباً.
والعنوان الأساس للمرحلة الفاصلة عن مطلع أيلول بداية المهلة الدستورية للانتخابات الرئاسية سيكون تمرير الوقت بين مشاورات تأليف ستراوح مكانها، وبين متابعات حكومة تصريف الأعمال لشؤون البلاد المالية، وبين التهيئة للانتخابات الرئاسية التي ستشهد حركة مكثفة مثلثة الأضلع:
الضلع الأول يتعلّق بالكتل والقوى السياسية التي ستبدأ مشاوراتها الداخلية أولاً لغربلة الأسماء التي ستطرحها للرئاسة الأولى، وقبل ان تنتقل ثانياً المكونات التي تتقاطع بشكل أو بآخر سياسياً لمشاورات بين بعضها بعضاً في محاولة لتبنّي مرشح واحد.
وليس سراً انّ تركيز كل القوى سيكون على خطين: غربلة الترشيحات، وإجراء البوانتاجات اللازمة.
ويندرج في هذا السياق طبعاً موقف القوى المسيحية من جهة وتحديداً «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، كما موقف الثنائي الشيعي و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، وأخيراً الشخصيات السنية والمستقلة والتي تسمّي نفسها بالتغييرية، اي فسيفساء سياسية من الصعوبة بمكان ان تلتقي على رئيس واحد.
الضلع الثاني يرتبط بحركة المرشحين التي ستبدأ بالبروز تِباعاً من خلال إطلالات سياسية وزيارات ولقاءات وترشيحات، وستكون بكركي محط أنظار معظم هؤلاء المرشحين.
الضلع الثالث يتصل بحركة الديبلوماسيين باعتبار انّ الاستحقاق الرئاسي نصفه داخلي والنصف الآخر خارجي، وفي ظل أولوية دولية قوامها تَجنُّب الفراغ الرئاسي في مرحلة انهيارية غير مسبوقة، وتتطلّع عواصم القرار إلى محطة الاستحقاق الرئاسي من أجل إعادة إطلاق عجلة الدولة ومؤسساتها التي توقفت وتفَرملت مع الثورة والانهيار.
والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى أيّ حد يمكن التوفيق بين الأضلع الثلاثة: حركة القوى السياسية مع حركة المرشحين وحركة الديبلوماسيين؟ وهل يمكن ان تتقاطع هذه الحركة على مرشّح واحد، أم انّ فسيفساء المجلس ستُزكّي الفراغ الرئاسي على الانتخابات الرئاسية؟ وما صحة انّ حركة مشاورات تقودها باريس بعيداً عن الأضواء لإنضاج التوافق على اسم توافقي يشكّل نقطة التقاء بين السياديين والتغييرين والـ8 آذاريين؟ وهل صحيح انّ «حزب الله» يفضِّل استبعاد خيارَي باسيل وفرنجية تجنّباً لاستمرار الانقسام الذي يجعل الأزمة تراوح ويشكّل ضغطاً على سلاحه ودوره، فيما مصلحته بانتخابات تزيل الانقسام وتجدِّد التسوية وتعيد الاستقرار وتُبعد الضغط على سلاحه ودوره؟ وهل ستتمكن مكونات المعارضة على اختلافها من السير بمرشّح رئاسي واحد وإيصاله إلى القصر الجمهوري أم انّ تشرذمها سيتواصل والاتكاء سيكون على الخيار غير الصدامي للفريق الآخر، لأن الخيار الصدامي يُبقيه في أزمة تتعارض مع وضعيته ومصالحه؟
في مطلق الحالات إن الأنظار من الآن فصاعداً ستتركّز على الانتخابات الرئاسية التي ستشكل محور الحدث والمتابعة، لأنه بناء على نتائجها سيُعاد تركيب السلطة، والتحدي الأساس أمام قوى المعارضة سيكون في تقاطعها حول مرشّح واحد. وبالتالي، العبرة الأساس والمفصلية التي ستؤسِّس لعهد جديد هي الانتخابات الرئاسية، فهل ستعتبِر المعارضة أم ستفوِّت هذه الفرصة التاريخية؟