لم يكن كلاماً إنشائياً ان يجري إدراج لبنان في البيانين الختاميين لزيارة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان إلى كل من مصر والاردن. فصحيح انّ جولة بن سلمان الخارجية الاولى منذ حادثة جمال خاشقجي جرى تحديدها منذ وقت غير قصير، أي قبل الاتفاق على زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن الى السعودية، الّا انّ اللقاءين اللذين جمعا بن سلمان بالرئيس المصري والملك الاردني، لا بدّ انّهما شكّلا تمهيداً لزيارة الرئيس الاميركي، والقمة التي ستُعقد في حضوره، والتي تضمّ دول الخليج إضافة الى مصر والاردن والعراق. وهو ما يعني أنّ لبنان سيحضر ولو بنحو ثانوي في زيارة بايدن للسعودية. فالاردن تضاعف قلقه من الانهيارات المتلاحقة في لبنان. وخلال الاشهر القليلة الماضية لم يتردّد في الإعراب عن قلقه الشديد إزاء تطور الاوضاع في المنطقة السورية الملاصقة لحدوده، مع انسحاب روسيا وملء إيران والقوى المتحالفة معها لهذا الفراغ. وبالتالي، فإنّ تدهور الاوضاع في لبنان إلى درجات إضافية، سيجعل من السهل في مكان تسرّب عدد من العوامل الأمنية المقلقة إلى داخل الاردن وبالتالي تعريض استقراره للخطر.
اما مصر، والتي دشنّت دخولها إلى الملف اللبناني بلا ضجيج منذ ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، فإنّها مرشحة لدور أوسع في المستقبل القريب. فيما السعودية التي استعادت نشاطها اللبناني ولو وفق ضوابط محدّدة، فهي من سيتولّى مشروع مساعدة لبنان اقتصادياً. لكن قبل ذلك، ثمة قاسم مشترك بين الدول العربية الثلاث، وهو مواجهة ايران، وبالتالي السعي إلى تحجيم حضور «حزب الله» العسكري، وهذا ما ورد في البيانين الختاميين.
الاردن مهتم كثيراً بمسألة مساعدة لبنان كهربائياً للتخفيف من الفوضى ومنع انفجار الوضع، وذلك من خلال دعوة الرئيس الاميركي إلى إمرار مشروع استجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية الى لبنان وإعفائه من عقوبات «قانون قيصر» المفروضة على سوريا.
فثمة اعتقاد بدأ يسري في الأوساط الديبلوماسية العربية، بأنّ ما بعد زيارة بايدن سيكون مختلفاً عمّا قبلها. صحيح انّ كثيراً من بيانات «عرض العضلات الإعلامية» تصدر إن في واشنطن او في الأجواء السعودية، الاّ انّ المنطق يقول إنّ الانعطافة السياسية الاميركية الحادة، والتي من المفترض ان تُظهرها القمة التي ستُعقد في السعودية، جرى التمهيد لها جيداً، ما سيؤدي الى نجاح زيارة بايدن. ولكن التخفيف من الضغوط التي يعانيها لبنان، لا تعني ابداً أنّ مرحلة الحل قد بدأت، لا بل على العكس، قد يكون الهدف مدّ الواقع اللبناني ببعض المنشطات او ربما التخفيف من حدّة الأزمة لمنع الانفجار. لكن الحل لا يزال في حاجة لاستهلاك كثير من الوقت، وحيث سيكون مؤشره الإعلان عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية مهمّته الإشراف على ورشة استعادة لبنان لأنفاسه.
وفي انتظار ذلك، فإنّ المسار الانحداري مستمر، ولكن مع بعض التحسن في التيار الكهربائي، وهو ما يعني كثيراً حياتياً للبنانيين. واستطراداً، فإنّ الترسيم البحري لم يعد بعيد التحقيق. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ لبنان سيبقى متأخّراً عن الدول المحيطة به في موضوع استخراج الغاز وبيعه. تكفي الإشارة الى انّ شركة التنقيب ستكون في حاجة إلى ما لا يقل عن 6 اشهر للبدء بعملها حال الانتهاء من توقيع الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية.
لكن الفائدة التي ستنعكس على لبنان ستكون هائلة مستقبلاً، خصوصاً لناحية إعادة بناء اقتصاد لبنان على أسس علمية سليمة، وضمناً، ردم الهوة المالية لدى مصرف لبنان، والتي تهدّد باختفاء الودائع في المصارف اللبنانية. هذه الفجوة التي وصلت إلى حدود الـ 60 مليار دولار اميركي. وفيما استنكفت السلطة اللبنانية والحكومات المتعاقبة عن وضع خطة إصلاح اقتصادية وإجراء اصلاحات مع بداية مرحلة الانهيار المالي منذ نحو الثلاث سنوات، ما جعل الفجوة تزداد وتتوسع من دون ان تتحمّل السلطات اللبنانية مسؤوليتها، فإنّ مصرف لبنان استمر في سياسة الصرف من الودائع الموجودة، ما أدّى الى انخفاض الاحتياط الموجود لديه من نحو اربعين مليار دولار عند بدء الازمة وصولاً الى نحو الـ 10 مليارات دولار حالياً، وفي شكل يستحيل معه إعادة الحقوق الى المودعين وحتى في جزء صغير منه. فمثلاً، فإنّ الكلام عن إعادة الاموال إلى حسابات ما دون الـ 100 الف دولار يستوجب تأمين نحو 35 مليار دولار. والسؤال هنا، من أين سيجري تأمين هذا المبلغ؟
وخلال الفترة الاخيرة ظهرت اقتراحات بدت اكثر عملية حيال معالجة ملف المودعين، ذلك انّ فجوة الـ 60 مليار دولار تتوزع مسؤوليتها على ثلاثة أثلاث. الثلث الاول، ذهب ضحية حماية سعر صرف الليرة اللبنانية، والثلث الثاني تمّ صرفه على قروض الدولة اللبنانية، اما الثلث الاخير فتمّ إنفاقه على الواردات من السلع والخدمات الأساسية.
وبغض النظر عن الجهة او الجهات التي يجب ان تتحمّل مسؤولية هذه الفجوة، فإنّه يمكن النظر علمياً وموضوعياً إلى طريقة الاستفادة مسبقاً من الموارد النفطية في البحر اللبناني، ما يلغي هاجس شطب الودائع ومن ضمنها المؤسسات الكبيرة، مثل الضمان الاجتماعي والنقابات.
وتشير المسوحات الزلزالية المزدوجة والثلاثية الأبعاد التي قامت بها ثلاث شركات متخصصة من ضمنها شركة «سبيكتروم» النروجية بإيعاز من الدولة اللبنانية في العقدين الماضيين، الى أنّ احتياطي الغاز يتراوح سعره ما بين 350 مليار دولار كحدّ أدنى و950 مليار دولار كحدّ أقصى. والاقتراح يقوم على أساس رصد نحو 20% من إيرادات النفط والغاز ووضعها في حساب مسبق يُخصص لهذه الغاية، ويتمّ بعدها توزيع اسهم وحقوق على المودعين، بحيث تتناسب قيمتها مع حجم الودائع الموجودة، ويمكن إدراج هذه الاسهم في اسواق البورصة لكي توفّر السيولة الآنية للمودعين الراغبين بذلك، إضافة إلى المساهمة في تطوير البورصة واستقطاب تدفقات الرساميل الخارجية. ومن المفترض ان ترتفع قيمة هذه الأسهم كلما تقدّم العمل في ملف استخراج الغاز. فمثلاً مع توقيع الترسيم البحري سترتفع القيمة، ومع البدء بالحفر سترتفع اكثر، وستبلغ ذروتها مع البدء باستخراج الغاز وبيعه في الاسواق العالمية. وقد تشكّل هذه الرؤيا حلاً معقولاً، خصوصاً انّه ممكن البدء به منذ الآن. وهو ما يوجب على مجلس النواب المباشرة في إخضاعه للدرس من كافة جوانبه لاستخلاص ايجابياته وسلبياته على حدّ سواء. وبالتأكيد، فإنّ أي معالجة لملف الودائع في المصارف يجب ان يترافق مع الإصلاحات الضرورية والملحّة، والتي يجب ان تطاول السياسة المالية للدولة والسياسة التي اعتمدها مصرف لبنان، إضافة الى قطاع المصارف وتوزيع المسؤوليات بنحو علمي وعادل، بعيداً من السجالات السياسية والمزايدات و«التشاطر» في ذرّ الرماد في عيون اللبنانيين، وهو ما ادّى الى استشراء الفساد في لبنان وانهيار العملة الوطنية ومؤسسات الدولة، ولو انّ هذا «التشاطر» حقق مكاسب سياسية آنية ومحدودة لهؤلاء.
صحيح انّه لا تزال هنالك مرحلة صعبة تفصل عن الحل المنشود للأزمة، لكن يمكن تقليل حجم الأوجاع التي نمرّ فيها.