أيّاً كانت النتائج التي ستُفضي اليها الاستشارات النيابية الملزمة اليوم، فالبلاد مقبلة على أزمة حكومية سواء سمّي الرئيس نجيب ميقاتي او نواف سلام وربما ظهرت اسماء أخرى بأقلية إسمية متفرقة. فتكليفُ أيّ كان سيخضع لدفتر شروط قاس ينتظره في اليوم التالي لاستشاراته غير الملزمة وإن بفوارق ملحوظة بين مكلّف وآخر تقودهما الى مرحلة غامضة في شكلها ومضمونها. وعليه، ما هي الظروف التي تقود الى هذه المعادلة؟
بِمعزل عن مجموعة الأسماء المتداولة في بازار التكليف لتسمية من يشكّل الحكومة العتيدة والتي لم تستقر على بَر محسوم كما في المحطات المشابهة السابقة، فإنّ العيون مفتوحة لمواكبة برنامج الاستشارات النيابية الملزمة التي دعا إليها رئيس الجمهورية اليوم في ظل الغموض الذي يلف بعض المواقف على وَقع جدول مقارنة يدل الى انّ أقسى المواجهات المطروحة ستكون بين ميقاتي وسلام ما لم يُفاجىء احد منهما اللبنانيين بموقف غير مألوف ما زال هناك من يتوقّعه لأسباب مختلفة مرتبطة بطبيعة أيّ منهما وما يريدانه وما لا يريدانه من هذا الاستحقاق.
وقبل الدخول في المعادلات المتوقعة تجدر الاشارة الى انّ ميقاتي كان على رغم من كل الضجيج المُثار من حوله مطمئناً الى رصيدٍ صلب ومتين يفيض على 61 صوتا لم يؤمنه احد سواه، وكان ما يزال ينتظر ميزان التسمية المذهبي الطائفي الداعم له على رغم من النظريات السياسية التي راجَت بين اعضاء فريقه اللصيق والتي استبعدت، لا بل شطبت، احتساب مرحلة التسمية للتكليف والتأليف من ميزان «الميثاقية الطائفية» في لبنان. فهو في قرارة نفسه يخشى مرة اخرى أن لا ينال تأييد اكبر كتلتين نيابيتين مسيحيتين «لبنان القوي» و»الجمهورية القوية» وإن كان لكل منهما أسبابه الخاصة التي لا تتوافق مع بعضها.
فإن بقي «التيار الوطني الحر» على موقفه الجامد مِن رفضه لعودة ميقاتي الى السرايا، فإنه يحتسب ألف حساب لتسمية سلام، فهو قرار سيضعه في مواجهة غير محسوبة النتائج مع «الثنائي الشيعي» ولا سيما منه «حزب الله» الذي سيخوض معركة ميقاتي مرة اخرى في اقل من عام واحد. ولذلك، فإنّ ميقاتي كان ينتظر موقف «القوات اللبنانية» مطمئنا الى انها لن تسمّي سلام ولكنها ستكون مُحرجة اكثر ان سَمّت ميقاتي. وهو أمر بقي مُحتسباً حتى بعد ظهر امس عندما قررت اللجوء الى الورقة البيضاء تترجمها بعدم التسمية لفقدان من يتمتع بالمواصفات المطلوبة منها. فالظروف التي تحكّمت بمواقفها السابقة قبل الانتخابات النيابية وفيها وبعدها تمنعها من اي خطوة مماثلة. وهي احتفظت بالكشف عن موقفها حتى الساعات التي تلت إعلان المواقف الاخرى المكشوفة سعياً الى موقف مُتمايز ومُغاير للكتل الأخرى، ولا سيما منها كتلتي «لبنان القوي» و«الكتائب اللبنانية» على رغم من تناقضها ايضاً. وكل ذلك يجري في وجود محاذير عدة تمنعها من التوافق مع تجمّع النواب التغييريين بحجة انهم لم ينتظموا في كتلة نيابية واحدة ولم يَتبنوا في شكل صريح موقفاً واحداً من نواف سلام او غيره.
وكل ذلك بات رهناً بمعادلة بسيطة تتحدث عن موقف مطلوب من محطة «غير محرزة». وانّ ايّ «دعسة ناقصة» سيكون مردودها سلبياً جداً. فلا يمكن ان تسجل تراجعها عن مواقف سابقة لها في مواجهة المنظومة من اجل حكومة أقصى ما هو مطلوب منها ان تدير مرحلة انتقالية تنتهي مفاعيلها مع نهاية عهد الرئيس ميشال عون، وإن أدارت فراغاً رئاسياً قد يقع فإنه سيكون من الافضل لها ان تبقى في موقع المعارض لنهج سيشهد مزيدا من التفكك في الدولة ومؤسساتها وهي لن تبدّل في مواقفها قبل ولادة العهد الجديد.
على هذه الخلفيات تتوسّع السيناريوهات التي تُحاكي استشارات اليوم وهي تخضع لقراءات متعددة تضع اي نهاية لها مؤشراً على بداية أزمة دستورية وحكومية «عَويصة». وفي ظل الغموض الذي يلفّ معظم هذه التوقعات، فإنّ أوضَحها يمكن الاضاءة عليه ان انتهت الاستشارات الى تسمية ميقاتي او سلام وهي تختصر بالآتي:
إن سُمّي ميقاتي فسيكون في مواجهة صعبة مع رئيس الجمهورية بالاصالة عن نفسه وبالانابة عن «التيار الوطني الحر»، ولن يكون مسنوداً من قوى أخرى غير «الثنائي الشيعي» فيعيد التاريخ نفسه بعد عقد وعام واحد على تجربة مُستنسخة عن «حكومة 8 آذار 2011» ان شكّلت، والّا ستستمر المراوحة وهو في موقعين متلازمين بين كونه رئيساً لحكومة تصريف اعمال ورئيس مكلف تشكيل الحكومة العتيدة.
وإن سُمّي سلام، فسيكون على اللبنانيين ان ينتظروا ردات فعل غير محمودة على مثل هذا السيناريو الحاد، خصوصاً اذا اعتبر «حزب الله» انّ في مثل هذه النتيجة تحدياً له تتجاوز في عمقها قدرة «الثنائي الشيعي» على تحمّلها. فالرئيس نبيه بري قادر على التكيّف مع مثل هذه الظروف بحكم موقعه الدستوري الذي يفتقده الحزب. ولذلك سيكون الحزب الى جانب رئيس الجمهورية «مُجبر اخاك لا بطل» في مواجهة حادّة، ليس مع سلام فحسب، انما مع جبهة جديدة انتقمت لعدم قدرتها او فشلها في انتخابات رئيس مجلس نيابي ونائبه واميني السر والمفوضين الثلاثة كما في انتخابات رؤساء اللجان النيابية ومقرريها والأعضاء. هي مرحلة خطيرة يمكن احتساب مَساوئها بسهولة ولا تخضع مظاهرها لكثير من الملاحظات.
وانطلاقاً ممّا تقدم تبرز المعادلة التي تقول انّ أسوأ ما يمكن ان تصل اليه الامور لم يعد رهناً باختيار ميقاتي او سلام، فسيّان في ظل غياب الخيار الثالث. فكلاهما من الخيارات الصعبة ان بقيت المواقف على حدّتها. فإن انتصَر ميقاتي، تكون المنظومة قد سجلت انتصاراً ساحقاً على المعارضين والتغييريين وتستعد لحرب بينية بين مكوّناتها لا حدود لها، إن لم تنجح في استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية يُنهي مجموعة من المشاريع الخطيرة التي قد يتعرّض لها البلد المُنهَك بمجموعة من الازمات وَضَعته على شفير الارتطام الكبير وفقدان مقوّمات العيش اليومية لأبنائه. وإن سمّي سلام فإنه سيكون انتصاراً «سوريالياً» لمجموعة سياسية حلمت بالتغيير من دون قدرة على التأسيس له وبلوغ مرحلة ولادته الطبيعية. فحكومة الأسابيع القليلة كما يريدونها قد لا تولَد وسيطول انتظارها قبل ان تَتبخّر نتائجها عند وقوع الشغور الرئاسي الذي يحفظ لحكومة تصريف الأعمال مهمتها ويُنهي مهمة الرئيس المكلف فوق أشلاء بلد فقدَ قدرته على الصمود ليدخل دهاليز ومسارب عميقة ومظلمة لا يستطيع ان يُقدّر أحد نتائجها من اليوم.