يقول أبو حيّان التوحيدي : لا ترفّهوا السفلة فيعتادوا الكسل والراحة ، ولا تُجرّئوهم فيطلبوا السّرف والشغب ، ولا تأذنوا لأولادهم في تعلُم الأدب فيكونوا لرداءة أصولهم أذهن وأغوص ، وعلى التعلّم أصبر ، ولا جرم فإنهم إذا سادوا في آخر الأمر خربوا بيوت علية أهل الفضائل .. لذا يُقصي العامة عن السياسة فلا حق لهم فيها ، وهم عنده مجرد خدم للسياسة ، وليسوا مؤثرين فيها وبها . وقد حرّم عليهم السياسة لأنّه حرّم عليهم العلم لأن السياسة عنده علم وتدبير لا يُدركهما سوى الخواص . وهذا نفسه موقف الغزالي الذي حرّم على العامة الإشتغال بعلم الكلام لأنه يؤدي عنده إلى الكلام في السياسة وهذا نفسه موقف ابن رُشُد .
يخالف أهل العلم عنا كل من ابن رشد والغزالي وأبي حيّان التوحيدي فيطلقون جهابذة السفلة في كل مسألة وهم نوّاة السياسة وحرّاسها والقوّة المنفذة لحمايتها دون تردّد لذا يسيطرون على الشوارع قهراً وضرباً وقتلاً لكل من تسوّل له نفسه الإشارة بإصبع إدانة إلى زعيم هنا وقائد هناك وعلى وسائل التواصل الإجتماعي سبّاً وشتماً وتهديداً لكل من يكتب فكرة تُزعج مسؤولاً هنا وآخر هناك رغم أنهم لا يفقهون قراءة المنشور ويتحمكون بالإنتخابات على اختلاف استحقاقاتها من خلال تأييدهم الأعمى ونصرتهم لسوء الساسة من أهل السياسة ورفضهم بالحديد والنار لكل منافس سياسي وتخريب النتائج اذا ما أتت على خلاف مشتهاهم وحرق البلاد والعباد اذا ما تمّ اسبعاد ربهم السياسي والديني والطائفي والمذهبي والحزبي عن كُرسي السلطة .
تُطلق أحزاب لبنان رعاعها في كل محفل وباتت على قناعة تامّة بضرورة استقطاب كل سفيه وإطلاق يده في كل حيّ وشارع وقرية ومدينة وهذا ما كرّس سياسة حزبية جديدة مخالفة للمفاهيم والقيم الحزبية القديمة والتي لا تضم إليها إلاّ النُخب من أهل العلم والثقافة ولم تعتمد يوماً على الرعاع والسفلة إلاّ في تجارب الحروب الداخلية وهذا لا يطال كل الأحزاب المشاركة في هذه الحروب ولكن كان هناك نوعاً من التدابير المُقيدة لهؤلاء القلّة من السفلة على عكس السياسة القائمة والتي تعتمد بشكل أساسي على هذه الزمرة وتوفر لها كل ما تحتاجه من خدمات كي تكون جاهزة دوماً لتلبية الأوامر في سد كل فجوة في جدار السلطة .
قديماً اعتمدت دولة المارونية السياسية على سفلة الشوارع لتأديب الناشطين ضدّها واليوم تعتمد أحزاب الطبقة السياسية على رعاع الشوارع لصدّ أيّ محاولة تسلل ضدّها من قبل المتضررين من سياسات الفساد وقد تكفلوا هؤلاء في القضاء على محاولات الإصلاح السياسي وكتم الأنفاس بكواتم الصوت بحيث تمكنوا من حفظ النظام السياسي ومنعه من السقوط وإعادة إنتاجه من جديد مع رموزه .
لم يخالفوا من عندنا ابن رشد والغزالي والتوحيدي في ذلك فقط بل إنهم أطلقوا رعاعاً آخرين في المراكز والمعاهد والمؤسسات التعلُمية والتعليمية الآكاديمية والدينية لبسط سيطرة كاملة لهؤلاء في كل حقل كي يتحكموا من خلالهم في كل مفصل داخل بنية المجتمع أوالدولة .