لم يكن ثمة من مصدرٍ لمعرفة الأحداث التي خلت قروناً وقروناً، سوى التاريخ، ولا يوجد تاريخ مؤرَّخ نهائي، وبما أنَّ المؤرخين لم يصنعواالتاريخ، وإنما صنعوا علم التاريخ الذي من خلال قواعده الساعية إلى فهم وتحليل ما جرى من أحداث تاريخية، وبالتالي الخروج باستنتاجات حولها، وأيضاً علماء الإسلام الذين دوَّنوا الروايات والأخبار وصنَّفوها ضمن أصول وقواعد في صفائح تاريخية، التي هي حصيلة جهدهم وتعبهم، والتي أيضاً لم تسلم من طوارق الزمن التاريخي. فإذا كانت باستطاعة مجموعة من المؤرخين أن يثبتوا حدثاً معيناً عبر منهجية علمية معتمدة لديهم، فهذا لا يعني أنَّ ثمة مؤرخين آخرين لن يكونوا قادرين على إثبات حدث معين لديهم وبطريقة علمية ومنهجية، فحينئذٍ يكون فهم الحدث وفق الرؤية التاريخية فهماً بشرياً، ولا يكون فهماً كاملاً ونهائياً، وبما أنَّ علوم التاريخ ووسائل البحوث قد تطورت بتطور العلوم والمعارف الأخرى والمناهج البحثية، فمن الطبيعي أن يؤثر علينا الفهم والاستنتاج، وهذا طريق لرقينا وتطورنا من الاستفادة من جريان الأحداث في التاريخ، وإلاَّ إذا كان لكل أصحاب حدث من أحداث التاريخ، جماعة أو سلالة أو قبيلة أو مذهب أو طائفة تمنع تداوله تحت خشية فتيل الإحن والفتن، فمتى تسرد حكايات التاريخ؟؟.
مثلاً أليس هؤلاء الذين تقاتلوا في القديم ما قبل وما بعد الإسلام، هم من صنع تاريخ هذا الشرق وهذه المنطقة؟؟. ألا يبعث هذا الأمر على الحيرة والعجب!!. تارة نتغنَّى بهم وبفتوحاتهم وانجازاتهم وبطولاتهم، وأخرى لا نريد البحث عن قضايا حصلت بينهم تحت ذريعة الفتنة والانشقاق؟؟!!. تارة نفتخر، وأخرى نخجل، فلماذا يخجل الأحفاد بالأجداد؟؟. لماذا نريد أن تتحكم فينا الصورة والقبيلة؟ والأنظمة أيضاً تتحكم في كل ما نقرأه ونشاهده؟؟ فلماذا نحن شعوب هذه المنطقة مصدرنا المعرفي الوحيد فقط الصور والألوان، بدلاً من القراءة والوعي الذي يجمعنا من أجل حياة أفضل مما كانوا هم عليها؟؟ لنستفيد من تلك الأحداث بدلاً من طمرها تحت الرماد، فلتخرج إلى الضوء ونتخلى عن النعرات والنزعات، من أجل الإثراء والمعارف التي تجلب السعادة بدلاً من جلب الدمار والخراب. في النهاية، كأننا نريد تقليص المعرفة، فهذا البرنامج الديني يسيء، وهذا البرنامج السياسي يسيء، وهذا الكتاب يسيء، وهذا المقال يسيء، وهذا المسلسل سيعيد لنا الحروب، وحتى في المواقع الانترنتية تحجب صفحة هنا، وموقع هناك، لأنَّ هذه الدولة لا يوافقها سياسياً، وتلك لا يوافقها دينياً ـ وهكذا دواليك ودواليبك ـ فماذا بقي للقارئ؟ للمشاهد؟ للمثقف؟ للآخرين جميعا؟.
وأخيراً لنرى العقل السوي الذي أرَّخ تاريخاً وسينما ومسلسات حول الحرب العالمية والغزوات بين القبائل القديمة، مثلاً : بريطانيا وفرنسا لا تخشيان من إثارة الفتنة بين شعبيهما، حين يعرض المخرجون أفلام الحرب بين المطناطحين قديماً! والحرب الطاحنة بين البيض والسود والهنود الحمر والصُفر والبيض والغرابيب السود، فصنعوا أفلاماً تحكي عن العنصرية والهمجية والكاوبوية ـ كابوي ـ بالعكس رأينا رجلاً أسوداً حكم أكبر دولة في العالم؟؟؟ ـ أوباما ـ ولم يهب أحداً من تلك المجتمعات لتجديد الفتن والنعرات. الفرق أنهم سكنوا الفضاء والكواكب والنجوم، وأبدعوا من تلك التجارب، بينما نحن ما زلنا نسكن لعنة التاريخ، فمجرد الخوف من إظهارها، هذا يعني أننا لا زلنا نعيش نعرات الصحراء ورمالها، وقريشها ويثربها وجميع مناطق الرمال الصفراء، فتاريخنا، تاريخٌ قلَّ فيه الضوء، وكثرت فيه الظلمات، للأسف هذا لم يرقد إلا في تاريخنا وعقولنا، ولم ينم إلا في منطقتنا وبيئتنا ومجتمعنا..