أبعد من المواجهة بالذخيرة الحية بين القضاء والمصارف، تمر الدولة منذ وقوع الانهيار الكبير في حالة من انعدام الوزن التي تتخذ أشكالاً مختلفة، باتت تساوي في مجموعها الفوضى.. غير المنظمة.
بناء عليه، بدت المواجهة مع القطاع المصرفي وكأنها تملأ «الفراغ المموّه» الناتج عن عجز المستوى السياسي في الدولة وعدم قدرته على التعامل مع الازمة المستفحلة وفق مقاربة شاملة، وليس بالقطعة أو بالمفرّق.
لا تملك الدولة حتى الآن تصورا واضحا ومتكاملا لطريقة معالجة اسباب الانهيار وتداعياته، ما أفسح المجال أمام اجتهادات متفرقة من هنا وهناك، لا تفضي سوى الى حلول مجتزأة وغير مستدامة، في حين ان الازمة هي أكبر من أن تُقارَب بواسطة وصفات موضعية، محدودة التأثير والفعالية.
لكن ما عزّز هذا المنحى وشجّعه هو التخبط الرسمي، إذ لا مجلس النواب اصدر قانون الكابيتال كونترول ولا مجلس الوزراء أقرّ خطة الإنقاذ والتعافي، ولا مصرف لبنان وضع رؤية منظمة لإدارة الازمة، ولا المصارف تعاطت ببراغماتية ومرونة مع الأمر الواقع ولا حتى القضاء نسج استراتيجية واضحة للمواجهة بل تُرك الامر لمبادرات فردية.
بهذا المعنى، فإن المشكلة الاساسية لا تكمن حصرا في سلوك مصرف او مصرفين او اكثر، بل تتمثل في انهيار الدولة ككل بعد إفلاسها التلقائي منذ لحظة تخلفها عن سداد الدين وسقوط الـ«سيستم» الذي كان يتولى الإشراف على لعبة الطرابيش وشراء الوقت. واستطراداً، فإن اي معالجة لا تحاكي هذه الحقيقة ستبقى قاصرة عن الإحاطة بمتطلبات الحل الشامل والعادل.
وتبدي شخصية مطلعة على حقائق القطاع المصرفي ودهاليز السلطات المتعاقبة، أسفها واستغرابها لإصرار البعض حتى الآن على اختزال المأزق المالي الاقتصادي او اختصاره ببعض المظاهر التي تطفو على السطح، من دون الغوص الى العمق حيث تكمن جذوره، مشيرة الى ان الجميع ما زالوا يتلهون بنتائج الانهيار بدل التصدي لأسبابه.
وتلفت الشخصية إيّاها الى ان مجلس الوزراء معني اولاً بأن يؤدي واجبه في أن يضع خطة إنقاذية قبل أن يتدخل في شؤون القضاء ويعطيه دروسا في تطبيق العدالة، والسلطة القضائية بدورها يجب أن ترسم توجها عاما ومدروسا لكيفية تعاملها مع المصارف والبنك المركزي آخذة في الحسبان المصلحة العليا للبلد والمودعين وهذه تحديدا مسؤولية مجلس القضاء الأعلى الذي يجب أن يأخذ المبادرة.
وتشدد الشخصية المُلِمّة بملف النزاع المصرفي القضائي على انه لا يجوز تجهيل الفاعل الأساسي عند تحديد المسؤوليات عن الانهيار وهو الدولة التي ارتكبت عن سابق تصور وتصميم جرم إهدار أموال المودعين في مزاريب الهدر والفساد وعجز الموازنات وسياسة تثبيت سعر الصرف، بالتعاون مع البنك المركزي، «من دون أن يعني ذلك تبرئة المصارف التي كانت من مسهّلي وقوع هذا الجرم، لكن يبقى هناك فارق بين ارتكابه وبين تسهيل حصوله».
وتقرّ الشخصية نفسها بأن المصرفيين ليسوا قديسين ولا يرشحون زيتا «وربما كان يجب أن يتفادوا المخاطرة الزائدة بتوظيف الودائع لدى مصرف لبنان طمعاً بالارباح، انما لا يصح في الوقت نفسه ان تُلقى عليهم وحدهم، او اكثر من غيرهم، تبعات أزمة ضخمة، معتبرة انّ تراتبية المسؤوليات تتوزّع كالآتي: الدولة، البنك المركزي، المصارف الكبيرة، المصارف الصغيرة، ثم المودع الكبير».
وتنتهي الشخصية العارفة بـ«البير وغطاه» الى استنتاج مفاده ان البلد صار عصفورية، وفي داخلها «حارة كل مين إيدو إلو..»، آملة في احتواء الفوضى المتمددة قبل فوات الأوان.