تذهبُ حكومةٌ وتأتي حكومةٌ، ولا تستطيع واحدةٌ أنْ تكتشف مفتاح هذا السرّ الذي إسمـهُ الحكم والحكومة كأنّنا نعيش في عالمٍ من غيـر هذا العالم.
ad
تذهب حكومةٌ وتأتي حكومة، وكلُّ حكومة تلعنُ أختها وتلعنُ الظلام، فرسانُ الليل يحجبون عنها الضوء، وظلُّ الإسكندر ينتصبُ أمامها ولا تستطيع أنْ تقول لـهُ بلسان الفيلسوف اليوناني «ديوجين» لا تحجب عني نـور الشمس.
الحكومات عندنا لا علاقة لها بالفيلسوف اليوناني والفلسفة، فهي متخصّصةٌ جـداً بالشؤون المالية وصناديق النقْـد.
حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تسير على رجـلٍ ونصف الرجْـل في حقـلٍ من الألغام، وكلُّ ملـفٍّ فيه عبـوةٌ ناسفة: ملـفُّ الموازنة والتعيينات والإنتخابات والمذكرات القضائية والرسوم والترسيم والمراسيم والثنائيات، وكلّما ضـاق الرئيس الميقاتي ذرْعـاً أوْ ضيَّقوا عليه الخناق يهدّد بالإستقالة... ولمَ لا..؟
أيُّ شيء في لبنان بـات يحتاج إلى حكمٍ وحكومةٍ وحاكم...؟
وأيُّ مؤسساتٍ باقية ليحكموا بها...؟ وأيّ شعبٍ بقـيَ ليحكموه...؟
مهما كانت المآخذ على الرئيس سعد الحريري، سواءٌ كان من المنظومة المتورّطة بالفساد، أو كان مكرهاً لا بطـلاً، إلاّ أنّـهُ استحى مرتين: مـرة عندما استقال من الحكومة، ومـرّة عندما استقال من مزاولة العمل السياسي، وإنْ صـحّ أن الرئيس الحريري يعاني إفلاساً ماديّاً، فلا يصـحّ القول بإفلاسه الشعبي، فلا يزال على الساحة السنيّة هو الأقـوى.
خطيئـة الذين ما زالوا يتمسَّكون بالكراسي المخلّعـة التي يـدبُّ تحتها النمْل، ليس في أنهم لا يستقيلون، بـلْ في كونهم يفتلون الشاربين اعتزازاً بممارسة سلطة وهميّة فـوق ركام الدولةِ ولا يخجلون.
عندما يكون الحاكم حاكماً ومستقيلاً معاً، وعندما نبلغ وقتاً شبيهاً بما كتبت جريدة «المونتور» إبّـان الثورة الفرنسية: «لقد بلغنا وقتاً لـم يعـد ممكناً لنا فيه أن نسترجع الحرية والعدالة والدستور الذي يضمن الإثنتين...»
ad
وعندما يمكن باللاَّحكم أنْ نسترجع ما فقدناه بالحكم، يصبح اللاَّحكم أفضل، وتصبح الإستقالة أجـدى من استمرار الشدائد والمفاسد: وقـدْ «ظهـرَ الفسادُ في البـرِّ والبحرِ بما كسبتْ أيدي الناس (1)...»
في تاريخ الدول، عندما يتهاوى الحكم هزيلاً بفعل سـوء التدبير وغبـاء المستشارين وغياب العقلاء، يصبح الحاكم ضحيّة أكاذيب المنجّمين والتدجيل باسم الكواكب، كمثل ما ضلّل المنجمون كاترين دي مدتشي ملكة فرنسا فمارست السياسة دون رادع وتسبّبت في إضرام الحروب الدينية والتذابح الأهلي.
قبل أن يتوقّف عندنا التاريخ كنّا نتذكّر أننا شعب طبيعي نعيش كباقي البشر ولنا خصائص ومفاخر نتميّـز بها، ونحن اليوم في مرحلة التحدّي المصيري، علينا أنّ نحرّك عجلة التاريخ لنولد من جديد ولادة غير مشوّهة.
لفتني جداً مشهدٌ عراقي بالغُ التميّز: في جلسة انتخاب رئيس المجلس النيابي (9/1/2022): دخلَ النواب المنتمون إلى تيار مقتدى الصـدر وهم يرتدون الأكفان تعبيراً عن أعلى درجات التضحية حتى المـوت في سبيل مشروعهم السياسي لإنقاذ البلاد.
ad
ليت المسؤولين عندنا يتشبّهون بالكرام... فيما نرتدي نحن الأكفان وهم على قبورنا يرقصون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-1 سورة الروم القرآنية: 41.