في إطلالاته التلفزيونية، من الطبيعي أن لا ينادي السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله على زيْتِه عكَراً، بدل أن يترك لبيئته الحاضنة وسائر المواطنين اللبنانيين أن يحكموا على مذاقه، فخلال عقودٍ من الزمن تجرّع اللبنانيون مرارته بصبرٍ وجَلَد، هكذا حاول بالأمس سماحته أن يُقنعنا بالشرح المُطوّل أنّ المقاومة( بتضحياتها ودماء شهدائها والأموال الإيرانية التي أُغدِقت عليها) آتت أُكُلها، بعد أن تبيّن، وبشهادة الشهود من أهلها، أنّ إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وأنّ الفساد والإنهيارات( المعنوية والمادية والنفسية والإجتماعية) تُحيط بها من كل جانب، وأنّ أقصى أمنيات رئيس حكومة إسرائيلية سابق هي أن تُعمّر هذه الدولة المتهالكة "الصنيعة" مائة عام، ذلك أنّ تاريخ اليهود يُنبئ ويشهد بأنّ أقصى ما يمكن أن تُعمّره دولة يهوديةيقع في حدود الثمانين عاماً، عال العال يا سماحة السيد، لكنّ الوقائع والشواهد والأدلة تنطق بخلاف ذلك، فدولتُهُم عامرة، والخدمات الأساسية مُتوفرة، وأيدي آلتهم العسكرية والأمنية طويلة، والقضاء عندهم ( وهو أساس المُلك) بخير وعافية، تستطيع الشرطة أن تُحقّق وتُلاحق كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والإداريّين على الشُّبهة، فيدخل رئيس حكومة سابق السجن بعد إدانته باختلاس أموالٍ عمومية، ويدخل رئيس دولة سابق السجن بعد إدانته بتهمة التّحرش الجنسي، ناهيك عن احتكامهم لصناديق الاقتراع المرّة تلو الأخرى دون كللٍ أو ملل، ولا داعي لذكر فضائح المسؤولين عندنا وفسادهم واستباحتهم للمال والأنفُس والثمرات، حتى بتنا جميعاً على قناعة، بأنّ "زير المقاومة" لن ينتشلنا من البئر السّحيق الذي ألقتنا فيه منظومة سياسية فاسدة لا ترحم ولا ترعوي، لاطمئنانها الدائم بفعالية الحماية التي يؤمّنها سلاح المقاومة، وإعلام المقاومة وخطابات سادتها ومشايخها وحُجّاجها، مع الأبواق والأقلام المأجورة بالطبع.

 

بات علينا أن نعترف جميعاً بأنّ كل ما نقوم به من نقدٍ واعتراضٍ على خطاب هذه المنظومة التي تلفّعت برداء المقاومة والممانعة قلّما يُجدي نفعاً، فقولنا "ناسوتي" وقولهم "لاهوتي"، ومنذ فجر التاريخ البشري وحتى اليوم لم يصمد الناسوت أمام سحر اللاهوت وجبروته، وما زال العقل الدوغمائي( اي الإعتقادي المُتحجّر) مُتفوّقاً على العقل النّقدي، فهو يشغل معظم الممارسات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي قام بها الفكر البشري من المرحلة البدائية إلى المرحلة الزراعية المدنية، التي تعتمد على التضامن الإيديولوجي بين الدولة والكتابة والثقافة المكتوبة العالِمة، والشِّيفرة(Code) الأرثوذكسية لتدبير العقول والأفراد والجماعات.

 


يمتلك السيد نصرالله قدراً وافيّاً من الخبرة والفصاحة لاستعمال العقل الدوغمائي في خدمة خطابه الإعتقادي وطموحاته السياسية، بما لا يُتيح أية فرصة للعقل النقدي أن يمخر عُباب هذه الطروحات، حتى أصبح بإمكاننا القول أنّ السيد حسن نصر الله هو اليوم "مرجعية" كفوءة في ما يُسمّى "السياسة الشرعية"، أو "اللاهوت السياسي" La theolgie politique، وهذا اللاهوت هو المنافس المُعارض للفلسفة السياسية التي تشكّلت في أوروبا ضدّ السياج الدوغمائي المُغلق الذي شكّلهُ اللاهوت المسيحي، وهو للأسف الشديد لم يغزُ بلادنا حتى اليوم، فلا عجب بعد ذلك، أن تجلس جموعٌ غفيرة لتستمع لخطابات قادة حزب الله، وتتقدّمهم ثلّة من الشخصيات الدينية والمدنية تُصغي وتوافق وتُصفّق وتُنفّذ، في غياب العقل النقدي وتبِعاته، والإنتخابات النيابية لناظرها قريب.