«أحلم حلم المستحيل حاملًا آلام السفر
أحترق في حمى مجنونة أبحر فيها إلى الخطر
أحببت حتى التمزّق وارتوى وجهي بالعبر
أغامر دون دروع أو سلاح في وجه القدر
علني أحظى بنجم لم يصله يومًا بشر»
ترجمة بتصرّف لشعر «جاك بريل» في مسرحية «دون كيخوته دي لا مانشا».
أتت رواية «دون كيخوته» لعظيم الأدب الإسباني «ميغيل سربنتس» في بدايات القرن السابع عشر عندما بدأ العالم يدخل في عصر التنوير المستند إلى المعرفة، بينما كانت نُخبه الثقافية تتحرر تدريجاً من عصر الأساطير. «رينيه ديكارت» كان يصوغ تصوره لدور العقل المحكوم بالبحث لاستكشاف أسرار الكون وفهم قوانينه. «جون لوك» أيضاً راح يعرض المنهج التجريبي والاستنباطي لفهم الحقائق. وكان «توماس هوبس» يدخل العلم على عالم الفلسفة في كتابه العظيم «الطاغية». صاغ في هذا السياق «سربنتس» شخصية «دون كيخوته دي لا مانشا» التي جسدت في اندفاعاتها العاطفية وتخيلاتها وتوهماتها غير العقلانية وهوسها بأدب الفروسية وأخلاقه البائدة. تلك الشخصية كانت منقطعة عن الواقع ورافضة له عن طريق الانغماس في التصورات الغيبية القديمة السحرية غير العقلانية. أحداث الرواية تدور حول رجل ناهز الخمسين عاماً، يطلق على نفسه اسم «دون كيخوته»، قضى أيامه في قراءة أدب الفروسية، وكان يبيع أملاكه ليشتري بها كتباً عن الفروسية والفرسان، فانتهى به هذا الهوس إلى الخلط بين الأوهام والواقع.
ad
قرر دون كيخوت استعادة أمجاد الفرسان الجوالين ليقوم بمحاكاة سيرهم في نشر العدل ومنح الشرف للبعض وحرمانه عن آخرين، وافترض أنه يقوم بمساعدة المستضعفين والدفاع عنهم، قائلًا: «لقد وُلدت في هذا العصر الحديدي لكي أبعث العصرَ الذهبي». قام باستخراج سلاح قديم متهالك خلّفه له أجداده فأصلح فيه ما استطاع، ثم لبس درعًا وخوذة وامتشق سيفًا وامتطى صهوة جواده.
أشهر وأكثر الأمور طرافةً في الرواية كان الصراع مع طواحين الهواء حيث توهّم أنها «شياطين لها أذرع هائلة تقوم بنشر الشر في العالم»! هاجمها وغرس فيها رمحه، لكنه علق بأحد أذرعها، فرفعته إلى الهواء عالياً، ثم سقط أرضاً وتهتّكت عظامه. في نهاية المطاف، يُقعِد المرض والعجز بطل الرواية من دون أمل في شفائه. يستفيق من جنونه ويقول: «لقد كنت مجنوناً والآن صرت عاقلًا، لقد كنت دون كيشوت دي لا منتشا، والآن عدت إلى اسمي العادي القديم».
أراد سربنتس من خلال روايته تحطيم سلطان روايات الفروسية البائدة والحد من انتشارها، على حد سواء، بين النخب وبين العامة، ضمن حبكة نقدية ساخرة هدفه تسفيه التشبث بالماضي وأساطيره.
بعد أربعة قرون من صدور هذه الرائعة الأدبية، ما تزال حتى اليوم تحضر شخصية دون كيخوته، فكل إنسان، مهما بلغت عقلانيته وموضوعيته في التعاطي مع الواقع، يظل يحلم بعالم مُوازٍ، عالم مثالي تتطابق فيه تصوراته وأحلامه الذاتيه مع العالم الخارجي. الفرق بين العاقل والموهوم هو أن العاقل يعلم ما هي الحدود بين الواقع والوهم، ويتصرف على أساس الواقع، أما الموهوم فيبقى غارقًا في الوهم، وقد يغرق آخرين في طريقه عن طريق التشبث بمن حوله.
ad
لا يشبه العقائدي الصلب والملتزم شيئاً أكثر من حائط اسمنت مسلح، فهو مشبع بأفكاره التي تشكل حاجزًا بينه وبين الواقع، غير قادر على استيعاب أي فكرة أو الدخول في حوار، إلا إن كان الاستنتاج يصب في بناء الإسمنت المطبق على عقله في أفكار مسبقة تتبنى كل الوقائع، حتى وإن ناقضت العقيدة، لتستنتج، حتى من خارج المنطق، أن ما يبدو أنه يناقضها هو بالفعل متوافق معها؟! لا شك أن كل ذلك يدعو للعجب عند ذوي الألباب، لكن المصيبة تقع عندما يظن الحائط الخرساني أنه من ذوي الألباب.
كون العقائدي يشبه الحائط لا يعني أنه خال من الشعور، لا بل على العكس، فإنّ أحاسيسه جيّاشة وانفعالاته في معظم الأحيان صادقة وحقيقية، فقد يبكي حزنًا أو يضحك طربًا، لكن مشاعره أيضًا مسكونة بهاجس واحد هو ما تقتضيه عقيدته الجامدة. من هنا، فعندما يحزن على مرض أو موت أو جوع أو دمار ما، فهو يبكي فقط على ما هو من صلب عقيدته، فيما يفرح عند حدوث الشيء ذاته لمن يعتبره مخالفاً لها. مثل بسيط واقعي هو تهليل واحتفال جماعة ولاية الفقيه بالبراميل المتفجرة والغازات السامة في سوريا، والبكاء على قصف اليمن والضحايا الذين سقطوا. هنا، فإن البشري العاقل، غير العقائدي، سينظر إلى المسألة من حيث المبدأ. فإن كان قتل البشر محزنًا، فهو سيحزن في الحالتين، حتى وإن كان له رأي في المسوغات السياسية. كذلك الأمر، فالدواعش يهللون عند تفجير انتحاري أو عند إحراق طيار أسير أو ذبح مجموعة من الضحايا الذين لا ناقة لهم ولا جمل، أيضًا على أساس أن الأمر يخدم العقيدة. لكن، ما يجمع هؤلاء جميعًا، هو أنهم مؤمنون بأن عقيدتهم تخدم البشرية جمعاء، حتى وإن لم تعلم تلك البشرية بذلك! من هنا، وبغياب المسوغات المنطقية العاقلة، يلجأ هؤلاء إلى استخراج الأساطير من الماضي السحيق لإيجاد المسوغات لهذا التناقض المرضي، بين مشاعر جياشة وشماتة مرعبة، تجاه حدث متطابق من حيث المبدأ. لو كنت لا أعلم معنى العقيدة العمياء، لكنت قلت بأن تلك المشاعر مجرّد نفاق، لكن الخطير أن تلك المشاعر التي يتم التعبير عنها بالشهيق والبكاء وتهدّج الصوت هي مشاعر صادقة. هذه المشاعر الصادقة تستدرج عملًا موازيًا يستسهل خرق كل المبادئ المتوافق عليها إنسانيًا وقانونيًا في عصرنا هذا، من خلال العودة إلى كتب عصور الفروسية كما فعل «دون كيخوته»، ليؤكد أنه يخدم الحق. الفرق هو أنّ دون كيخوته لم يؤذ أحدًا إلا نفسه وأصبح محط سخرية الناس في أيام نضاله، وأدرك «بعد رحيل العمر بأنه كان يطارد طيف دخان» على رأي نزار قباني. أما جماعة العقائديين الصم، فمسارهم مليء بالضحايا، منهم ومن آخرين، أعداءهم كانوا أم خسائر جانبية تقع على عابري سبيل.
ad
عندما شبّه أحد الصحفيين منذ أيام عقيدة «حزب الله» بأنها آتية من العصر الحجري، فهو بالتأكيد لم يقصد الدين الذي يؤمن به هؤلاء، فكل العقائد الدينية أصلًا تفترض أنها موجودة منذ الأزل وباقية إلى الأبد. هذا يعني حتمًا أنها كانت موجودة، حسب الاعتقاد، قبل حتى العصر الحجري بكثير وتسبق حتى فرضية «البيغ بانغ»، وهذه ليست إذًا إهانة. الإشكال هو أنه عندما تصبح تلك العقائد شأنًا عامًا يتخطى الإيمان الشخصي أو المجموعي، ليفرض نفسه على حيوات من هم لا علاقة لهم بتلك الفرضيات. هنا يصبح من حق الجميع وضع الفرضية العقائدية التي قد تقتله أو تستهدفه أو تخرب بيته وتهدم رزقه ومستقبله موضع التشريح في دائرة المساءلة. فمن أراد أن يعتقد أنّ لحائط ما خواصاً عجائبية فهذا شأنه، أما إن أراد إقناعي بخواص هذا الحائط، فسيقع الحائط موضع النقاش، وغالباً ما لذوي الألباب الحجج العقلية الكافية للتأكيد أن الحائط حائط ولا خواص عجائبية فيه، بل مجرد معادلة كيميائية فيزيائية جعلت من الحائط حائطاً قد يسقط، إما أمام قوة قادرة، أو بعامل الاندثار يوم تنتفي الحاجة له، ليصبح رسماً دارساً لا حاجة للبكاء على أطلاله، على قول أبي نؤاس. لكل ذلك، لا يحق لمن يحمل عقيدة سياسية أن يتلطى وراء قدسية دينية طالما أنّ تلك العقيدة تستعمل في السياسة وفي إدارة عمليات القتل والاغتيال والتفجير والحروب العابرة للحدود ولبناء امبراطورية بائدة على حساب كل ما هو حولها، وإلا، لكان من حق الداعشي أن يقول انه يستند إلى عقيدة إيمانية لإعادة بناء الخلافة!