هناك قوَّتان تتحكّمان بقرار إجراء الانتخابات في لبنان أو تطييرها: إيران والولايات المتحدة. وعموماً، توحي الصورة بأنّ الإيرانيين أقرب إلى التعطيل لأنّهم مرتاحون إلى الستاتيكو الحالي، والأميركيون أقرب إلى إجراء الانتخابات لأنّهم يريدون التغيير. ولكن، لا أحد يضمن عدم انقلاب الأدوار. فما الذي ينتظر لبنان في أيار المقبل؟
بأي ثمن، تريد واشنطن أن تكون الانتخابات النيابية المقبلة محطة مفصلية لتبديل موازين القوى، وإخراج لبنان من المحور الإيراني. وفي هذا المعنى، تريدها فرصةً أساسية لتحقيق ما لم يتحقق في محطات سابقة، وأبرزها 14 آذار 2005 و17 تشرين 2019.
ad
بالنسبة إلى الأميركيين، كل أدوات الضغط جاهزة لتحقيق هذا التبديل، وذروتها الإنهيار المالي والاقتصادي. فمنظومة الفساد التي تضمُّ قوى السلطة، والتي تتحمَّل المسؤولية عن هذا الانهيار، غالبيتها موالية لإيران. ولذلك، يمكن لهذا الانهيار أن يشكّل أرضية مناسِبة لوصول القوى المعارضة أو البديلة إلى السلطة. ويراهن الأميركيون وحلفاؤهم على الانتظار 3 أشهر أخرى، لعلَّ الانتخابات تقلب المعادلة الحالية.
في المتراس المقابل، يدرك الإيرانيون حقيقة الصورة وحجم الضغوط التي يتعرّضون لها. وهم يحتاطون لمواجهة الانتخابات النيابية، والرئاسية بعدها، بكثير من التأنّي واليقظة، ويستعدون لها كما استعدوا للمحطات السابقة، ولاسيما 14 آذار و17 تشرين، أي باستخدام كل الوسائل والأدوات المتاحة لإحباطها، وهي كثيرة.
الخيار الأفضل، بالنسبة إلى حلفاء إيران، هو مماشاة المناخ الدولي وإجراء انتخابات «مضمونة» والتجديد للغالبية الحالية. فهذا الأمر يقلّص من حجم الضغوط والعقوبات الدولية عليهم، ويُبعد الفرضية القائلة إنّ إيران تفرض نفوذها على الشعب اللبناني غصباً عنه.
بل إنّ إجراء الانتخابات «المضمونة» سيكرّس مشروعية السلطة لحلفاء إيران 4 سنوات أخرى، مع ما يستتبع ذلك من إمساك بالقرار في السلطة التنفيذية، أي الحكومة ورئاسة الجمهورية. وبعد فوز هؤلاء في الانتخابات، ستضطر القوى العربية والدولية إلى القبول بالنتائج ما دامت قد تحقّقت بالطرق الديموقراطية.
ولكن، إذا تبيَّن لحلفاء إيران أنّ الانتخابات ستأتي بنتائج مخيّبة لهم، فسيكون الأسهل أمامهم هو تعطيلها. والأدوات متوافرة جداً، من الانهيار المالي والإداري في مؤسسات الدولة، إلى النقمة الاجتماعية وإضراب موظفي القطاع العام، إلى التوترات السياسية والطائفية والمذهبية، وصولاً إلى الضرورات الأمنية.
طبعاً، لا تخشى إيران حصول أي خسارة على المستوى الشيعي، لأنّ «حزب الله» وحركة «أمل» يمسكان جيداً باللعبة الانتخابية في الطائفة. لكن الرهان يبقى على البيئتين المسيحية والسنّية اللتين وحدهما يمكن أن تشهدا تغيّرات ملموسة.
إذا تبيّن لـ«حزب الله» أنّ الانتخابات ستحمل مفاجآت غير مستحبة، فهو سيتخذ قراراً بالحفاظ على المجلس النيابي الحالي لعام أو اثنين مقبلين بأي ثمن، والإبقاء على الغالبية الحالية ممسكة بالقرار. أي إنّه سيحافظ على حجم حلفائه المسيحيين في المجلس من دون نقصان، ويحافظ على الحريري وكتلته، رغماً عن قراره الانسحاب من اللعبة، باعتباره «أهون الشرور» سنّياً.
وثمة مَن يقول إنّ الإيرانيين ربما يفكّرون بالنموذج العراقي للاستدلال إلى ما يفعلونه في لبنان. فبين العراق ولبنان تَماثُل دقيق في العناصر والمعادلات. وقد خاض العراقيون تجربة الانتخابات التشريعية في تشرين الأول الفائت، وجاءت النتائج مخيّبة لإيران، إذ فاز التيار الصدري وتراجع حلفاؤها الشيعة.
ad
ولذلك، عمدت طهران إلى خلق اشتباك سياسي ودستوري منذ ذلك الحين، يصعب على العراقيين الخروج منه. وآخر التعقيدات، فشَلُ المحاولات لانتخاب رئيس للجمهورية، ما يعني تلقائياً تعذُّر تسمية رئيس للوزراء وتشكيل حكومة. وأساساً تتخبّط القوى السياسية في إنشاء تحالف أو في الاتفاق على مرشح لهذا الموقع حتى الآن.
هذا يعني أنّ إيران ليست مستعدة للمغامرة بتقلُّص النفوذ في أي من العواصم العربية الأربع التي تسيطر اليوم على قرارها، كما أعلن مرشد الثورة علي خامنئي ذات يوم، وبيروت وبغداد في مقدمها. وهذا يعني أنّها لن تُكرّر في بيروت ارتكاب «الغلطة» العراقية.
واستطراداً، ثمة من يخشى أن يكون العامل الأمني هو عنوان اللعبة الآتية، في العراق كما في لبنان. وغالباً ما عاش العراق مناخات العنف في غمرة التأزم السياسي.
ففي الشهر الفائت، أُعلِن عن سقوط ثلاثة صواريخ على مقربة من منزل رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي، حليف الشيخ مقتدى الصدر. وقبله، في الخريف، أُعلِن عن تعرّض رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لمحاولة اغتيال.
ولذلك، وفي أي حال، لن تكون الأشهر الثلاثة المقبلة سهلة العبور في لبنان، سواء مالياً واقتصادياً واجتماعياً أو أمنياً.