في المشهد اللبناني لا فصل بين العامل الخارجي والعامل الداخلي، سوى إشارة الى مرحلة متقدمة في أزمة لبنان المصيرية المرتبطة بالانقلاب على التوازن الداخلي وتوازن العلاقات مع الخارج لتكريس مشروع الغلبة المرتبط بالمشروع الإقليمي الإيراني من خلال حزب الله. والأزمة مع السعودية ودول الخليج، ما هي الا إنعكاساً لذلك، وأما أزمة الحكومة وبقية مواقع السلطة، فإنها من ظواهر الأزمة المصيرية العميقة جداً.
لبنان الدولة والشعب يعاني ، من سلسلة أزمات متناسلة ، متعددة العناوين والمضامين والاهداف والمصادر الداخلية والخارجية، وقد ادت في جملة ما أدّت اليه، إلى تفكيك بنية الدولة في العديد من مؤسساتها، على وجه العموم، كما أدّت الى تدمير البنى الاقتصادية التحتية، ما أوصل البلد إلى مستويات غير مسبوقة من الفقر والحرمان والبطالة وهجرة الكفاءات الى الخارج بحثا عن لقمة العيش بكرامة واحترام، هذا البلد مرت عليه ثلات فرص ذهبية لم تستغل وهي اتفاق الطائف واندحار العدو الاسرائيلي من الجنوب واستشهاد الرئيس الحريري .
من يقرأ اتفاق الطائف يُدرك مدى العقلانية السياسية والقانونية والإدارية التي تحلى بها واضعوه، متوخين وضع شرعة وإيجاد ارضية توقف الحرب وتؤسس لمصالحة وطنية، تسهل بناء دولة مؤسسات وفتح افاق واقعية للبدء بورشة اصلاحات اساسية. كما تحضر لمشروع اقتصادي وإنمائي يُعيد إلى لبنان البحبوحة والازدهار. لكن وللأسف الشديد فقد عطّلت الوصاية السورية تطبيق الاتفاق والدستور من خلال استنسابية تؤمن المصالح السورية العليا، وفق الرؤية السورية بإبقاء لبنان ودولته مطيّة لخدمة الأهداف السورية السياسية والاقتصادية .
كان أمل اللبنانيين كبيراً بعد تحرير الجنوب اللبناني ، ان ينخرط حزب الله في ورشة بناء الدولة باستعادة روح الطائف، وتطبيق البنود الإصلاحية الكبرى التي نص عليها، وخصوصاً ما يتعلق منها بإلغاء الطائفية السياسية،ومجلس الشيوخ، وتطبيق نظام اللامركزية الإدارية والمالية والتي تشكّل الوصفة الناجعة لتأمين الإنماء المتوازن والعادل لجميع المناطق، ولكن للاسف هذا الامر لم يحصل،وذلك بالنظر للدور الاقليمي الذي يلعبه الحزب .
على اثر اغتيال الرئيس الحريري كبر الحلم بقيام دولة لبنانية سيدة ، لكن سرعان ما تبدّد الحلم، حيث تجمّع حلفاء سوريا واعلنوا رفضهم وثورتهم لقيام دولة لبنانية سيّدة وبقيادة حزب الله تشكّل معسكر 8 آذار الموالي لسوريا، والذي اثار ردّة فعل شعبية أدّت إلى ولادة معسكر 14 آذار والذي دعا لتحقيق قيام الدولة المستقلة والسيدة والتي اعتبرت في حينه بمثابة إعلان للجمهورية الثانية .
ولم تنجح حركة 14 آذار في تحقيق الشعارات السيادية التي رفعتها، حيث ضربت ضغوط حزب الله والقوى المتحالفة معه كل الآمال باستعادة مؤسسات الدولة لاستقلاليتها وقدرتها على تأمين عملها للحفاظ على المصالح الحيوية، فكانت التجربة القاسية من خلال استعمال حزب الله لسلاحه لقلب كل المعادلة، وبالتالي فرض وصايته على كل الدولة بدءاً من مجلس الوزراء إلى تعطيل كل الاستحقاقات الدستورية بما فيها انتخاب رئيس للجمهورية، ووصولاً إلى فرض قانون للانتخابات يؤمن أكثرية نيابية لصالح الحزب وحلفائه وبالتالي وضع لبنان إقليمياً تحت الوصاية الإيرانية، ودفع البلد تدريجياً إلى مواقف معادية للدول العربية.
نجح حزب الله في الهيمنة على جميع مؤسسات الدولة اللبنانية في ظل عهد العماد عون، وهذا ما سهل له امتلاك الآليات اللازمة للهيمنة على جميع القرارات الاستراتيجية، في مقابل تأمينه حرية الحركة للتيار الوطني الحر لتحقيق كل المكاسب الممكنة، على حساب بقية اللبنانيين، من مسيحيين ومسلمين، وظهرت بوضوح قدرات حزب الله على تعطيل المؤسسات من خلال العمل السياسي الضاغط لتأخير تشكيل الحكومات وتعطيل عمل مجلس الوزراء في محطات عديدة، وذلك بدءاً من الحكومة الأولى التي ترأسها فؤاد السنيورة ووصولاً إلى حكومة حسان دياب، وحكومة نجيب ميقاتي الراهنة.
عطل قرار حزب الله ومعه حركة أمل اجتماعات مجلس الوزراء منذ ثلاثة أشهر، وذلك بحجة تصحيح مسار التحقيق العدلي في جريمة مرفأ بيروت، وبعد اتهامه للمحقق العدلي القاضي طارق بيطار بتسييس التحقيق واعتماده الاستنسابية في مساره، واللافت في الأمر ضعف المؤسسات الرئيسية للدولة، وخضوع القيمين عليها لإرادة حزب الله وتخليهم عن القيام بواجبهم الوطني لتحدي إرادة الحزب في التعطيل ولأسباب سياسية داخلية وخارجية واضحة ومعروفة من الجميع، وهي تتناقض بشكل واضح وصريح مع كل المصالح الوطنية كما انها تزيد من تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية وانعكاساتها المؤلمة على حياة جميع اللبنانيين، بما فيها البيئة الحاضنة لحزب الله وحركة أمل.
كل هذه الممارسات ادت إلى الإخلال بكل الموازين التي أرساها دستور الطائف بتوزيع صلاحيات المؤسسات الرئيسية بين الموارنة والشيعة والسنة
في ظل حالة الانهيار التي يعيشها اللبنانيون، لا بدمن دعوتهم لتجديد انتفاضتهم وبالطرق الديمقراطية، وذلك عبر عمليات الاقتراع في الانتخابات النيابية التي ستجري في شهر أيار المقبل، والتي يفترض ان يعول عليها جميع المواطنين الإصرار كوسيلة لتغيير موازين القوى السياسية في لبنان، ومنع حزب الله من العودة بأكثرية نيابية لتسمح له بمزيد من التعطيل لعمل المؤسسات وصولاً إلى فرض هيمنته الكاملة على الدولة وإرادة اللبنانيين وتوظيفه لصالح المشروع الإيراني
يملك اللبنانيون ما يكفي من العقلانية والحكمة ومن الدعم السياسي والمعنوي العربي والدولي ما يمكنهم من السير قدماً في عملية تغيير المعادلة الراهنة، تمهيداً لإعادة بناء دولتهم واستعادة سيادتهم الوطنية .