إن الاحجام عن المشاركة في الاقتراع يعود الى اسباب عدة منها فقدان الثقة بمجمل عملية الانتخابات بدءا بقانون الانتخاب الذي فصّلته المنظومة على مقاسها، اضافة الى ما يشوب الاقتراع من عراقيل وتزوير ورشوة... وتنشط المنظومة بتعزيز هذه اللاثقة عبر بث الاشاعات وفبركة الاخبار لخلق مناخ يقوي هذا الشعور لدى الناخب. وبالرغم مما تقدم، يمتلك الناخبون قوة تقريرية هائلة باصواتهم، لكن الاستخفاف بهذه القوة وعدم استخدامها في تقرير نمط حياتهم، يجعلهم "كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول".
ان ادمان الناس على نفاق المنظومة والاعيبها جعلهم أسرى معادلة غريبة؛ عبودية معروفة افضل من حرية مجهولة، يدفعهم الى ذلك حالة قلق منفصلة عن الواقع وهي اقرب الى حالة استلاب ترفض تقبل فكرة الدخول في مغامرة جديدة، فالكبت القسري للحاجات المشروعة للافراد والجماعات يفرز حالة سوداوية تتمظهر بتماهيهم، كضحايا، مع جلاديهم. يعزز هذه السوداوية صمتُ "الحراك" وفشله في انتاج بديل مقنِع بالرغم من توفر كادر متخصص يمتلك الخبرة ومؤهلات القيادة والادارة اذا سنحت له الفرص يضاف الى هذا الصمت المطبق القليل من التواضع مضافا اليه شيء من نكران الذات، فنظرية الراعي الصالح والقطيع الاعمى لا زالت تملك مفعولا سحريا وتاثيرا قويا في المجتمع، وعلى قوى التغيير ان لا تتجاهل هذا السحر، وانما يجب الاستفادة من هذا الوضع بانجاز خارطة طريق والعمل بمقتضاها. خارطةٌ تجمع مختلف الشرائح المتضررة من رويبضات المنظومة الشرّيرة للارتقاء بالعمل السياسي الى مستوى تقطع به دابر كل رويبضة افسدت السياسة العامة وانحدرت بها الى ادنى درجات التخلف والانحطاط.
وقد يكون " العزيز" المنصهر في الرئاسة حتى درجة الذوبان والتبخر، نموذجا لهذه المنظومة المتوحشة التي دمرت الطبقة الوسطى. يشير "ماكس فيبر" الى ان القضاء على الطبقة الوسطى ينتج عنه كلفة اقتصادية واجتماعية باهظة تهدد امن واستقرار المجتمع. ويُعد العزيز المصهور اكثر مسؤول لبناني "ناشط" في عقد مؤتمرات صحفية، وكأنه يعاني عقدة نقص ازاء ولي نعمته تدفعه الى المنافسة في الظهور؛ هذا في مؤتمر وذاك في خطاب. أو أنّه، وهذا هو الارجح، الاكثر فسادا لذا يحتاج الى مؤتمرات بعدد الايام والسنوات التي امضاها وغلمانه، في تولي وزارات حولوها الى مزارع دجاج تبيض ذهبا.
بعد الانهيار والخراب الكبير الذي عم وانتشر، بقيادة هذه المنظومة الفاجرة، وبمشاركة نواب مُنحوا ثقة ليسوا أهلًا لها وأتُمنوا فلم يحفظوا الأمانة، آن اوان المساءلة والمحاسبة. تقول حكمة قديمة: اذا رأيت الظالم مستمرا في ظلمه فاعرف ان نهايته محتومة، واذا رأيت المظلوم مستمرا في رفضه فاعرف ان انتصاره محتوم. لذا الرد المناسب على ظلم المنظومة وخبثها يكمن في رفض الاعيبها، والمشاركة الفعّالة والكثيفة في الانتخابات.
وكلما كانت المشاركة اكبر تكون فرص التغيير افضل بالرغم من محاولات مسخ الانتخابات بخفة اعتمادا على ثقافة شائعة تتمنهج على وقع ما يجري وما لا يجري بحرفية عالية.
لا طريق لنا الا الاقتراع، فهو الوسيلة الوحيدة للتخلص من هذه الزمرة الرديئة المتحكمة. في اخر انتخابات جرت لم تتخطَ نسبة مشاركة من يحق لهم الاقتراع النصف، فأين النصف الاخر؟ ووفقا لنسب التصويت، فان فارق حاصل الاصوات بين الفائز والراسب لم يكن ذا شأن. يبقى موقف النصف الاخر، موقف الذي لا يشارك سلبا ولا ايجابا وفقا لرايه وهو موقف اللا موقف، لكنه في الواقع موقف رمادي، يعزز فرص نجاح مرشحي المنظومة.
هكذا تمسخ عملية الانتخابات وتتشوه بفعل ثقافة شعبوية ممنهجة ومعممة احترفتها المنظومة واحزابها.
ولسنا بحاجة الى قوى خارقة للطبيعة لتفسير تصرفات بعض الشرائح وما يطلق عليهم زوراً نخباً بالرغم مما يحملون من مبادئ تبدو اقنعة يتلطون خلفها، لأنهم في التطبيق يقدمون ممارسات سيئة تؤدي الى الفشل وهو نوعان: نوع يتأتى من التفكير بدون عمل، ونوع اخر يأتي من العمل بدون تفكير. ويبقى خلاص لبنان رهنًا بوعي اللبنانيين وايمانهم بوطنهم، وصحيحٌ أنَّ التغيير ليس هيّنًا لكنّه بيّن.