في لبنان، لم يتعب المُصلحون والواعظون، وأصحاب النّوايا الطّيبة والإرادات الحكيمة، من نُصح هذه الطبقة السياسية الفاسدة كي تنزع عن غيّها، وتعود إلى رشدها، فتعمد إلى إصلاح ما خرّبتهُ بأيديها، وتنصرف إلى معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية والمعيشية والحياتية التي أحاطت باللبنانيين من كلّ جانب، أو فلتتخلّى عن المسؤوليات الجِسام التي تنطّحت لها، واعتبرتها مغانمَ ومكاسب، بدل اعتبارها مسؤولية وأمانة، فاستشاطت في نهب المال العام، ونشر الفوضى في الإدارة العامة والمصالح المشتركة والمؤسسات الأمنية والقضائية.
لو أنّ الأمر اقتصر على دعوات الداخل اللبناني للبدء بعمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهان الأمر، فلم يبقَ مرجع أو جهة عربية أو أمميّة، إلاً ونبّهت حُكام لبنان إلى ضرورة القيام بواجباتها الإصلاحيّة، كمقدمة لمساعدة الشعب اللبناني المنكوب( المنكوب من هؤلاء الحكام)، إلاّ أنّه وللأسف الشديد، ذهبت كلّ المبادرات والنداءات والمناشدات هباءً منثوراً، وها هم باقون على دأبهم في الفساد وهدر المال العام، ويُمنّون النفس بإعادة انتخابهم لولايةٍ جديدة في الإنتخابات المرتقبة بعد أشهُرٍ معدودات، حتى إذا تبصّروا بأنّ الأمر قد يكون عسيراً، فلن يُعدموا حيلةً ل"تطيير" الإستحقاق الإنتخابي، والإحتفاظ بمقاعدهم ومناصبهم.
كان المُصلح السياسي-الإجتماعي المُتنوّر فرح أنطون( ١٨٧٤-١٩٢٢) سابقَ عصره بأكثر من قرنٍ من الزمن، عندما "نادى بضرورة وجود حاكمٍ عادل، يتولّى النهوض بالدولة، فيُهيئ لها تربية سياسية صحيحة، ويُضمّد جراحها ويمسح دموعها، ويفتح أبواب الرزق في وجهها"، كما يتوجب نبذ " كلّ حاكمٍ يريد أن يكون على جسم الرّعية، التي تولّى خدمتها عَلَقاً يمتصُّ دمها، وذئباً ينهشُ لحمها، وعدّوّاً شرّاً من العدو الخارجي، لأنّه يعتدي عليها وهو منها.
لو تيسّر لنا اليوم أن نسأل فرح أنطون من عليائه، أن يُرشدنا إلى مواصفات ومميزات الرئيس "القوي"، الذي يمكن أن ينتزع هذا البلد من مآزقه ومصائبه التي تتناسل من بعضها البعض، لحدّدها بما يلي:
"سياسي يمتلك الفضائل السياسية، وذلك بجعل الإستقامة وصحّة المبادئ، والمقدرة الشخصية والفضل والمعرفة سُبلاً إلى المناصب العمومية، لا حائلاً في كثيرٍ من الأحيان دونها، هذا هو الإصلاح السياسي الواجب إدخاله إلى "الشرق"، وهو إصلاحٌ بسيط في حدّ ذاته، ولكنه بالنظر إلى نتائجه، أكثر نفعاً وأشدّ تأثيراً من جميع الإصلاحات الأخرى.( فرح أنطون..افتتاحية مجلة "الجامعة"، السنة الأولى ١٨٩٩، الإسكندرية، ص٥٥.