تدخل القوى السياسية العام الجديد 2022، وهو عام الاستحقاقات النيابية والرئاسية والحكومية، بأولويات مختلفة تتقاطع على البعض منها وتختلف حول البعض الآخر، ولكن السنة المقبلة قد تؤسِّس لشيء جديد.
تحوّل الفراغ في المؤسسات الدستورية إلى جزء من حياة اللبنانيين، وقد أصبح القاعدة لا الاستثناء، لأن الفريق المُمسك بقرار الدولة يضع المواقع الدستورية أمام خياري الولاء له او تعطيلها، ولكن العنصر المستجدّ على هذه المعادلة أصبح ان الناس تفضِّل التعطيل على الولاء بعدما أثبتت التجربة ان أحوال البلاد لا تتغيّر نحو الأفضل مع مواقع دستورية مشغولة او ممسوكة من قبل فريق الأمر الواقع، وطالما ان النتيجة هي نفسها فإنّ خيار الفراغ يبقى الأفضل تجنباً لتعويم وتحكيم هذا الفريق السياسي، ولأن الفراغ يُبقي احتمالات التغيير الجذرية موجودة.
فمع الانهيار الذي انزلقت إليه البلاد لم تعد الناس ترضى بأنصاف الحلول ولا توافق على نظريات «أم الصبي» ولا تقبل بتخييرها بين السيئ والأسوأ، لأنه لم يعد أمامها شيء تخسره، وكونها اختبرت هذه التجربة التي لم تلجم التراجع والانهيار، وكون الحلول الترقيعية مضرة ومسيئة خلافا لما يظنه البعض باعتبارها تحافظ على ستاتيكو يجب تغييره لا المحافظة عليه.
ومن هذا المنطلق لم يعد التمديد للبرلمان مسألة سهلة يمكن تمريرها من دون ردات فعل شعبية وسياسية، ولا القبول برئيس للجمهورية من أحد رموز المشروع السياسي الذي قاد الدولة إلى الفشل يمكن تقطيعه تحت عنوان ضَخ جرعة أمل بتغيير لن يتحقّق مع رموز هذا المشروع، لأن الناس بكل بساطة تريد التغيير الفعلي وترى في الانتخابات فرصة لتحقيق هذا التغيير، والأخطر أنها أصبحت ترى في الانهيار الشامل فرصة لإعادة نظر شاملة بالتسوية السياسية القائمة برمتها بعدما أثبتت عجزها عن توفير الاستقرار والازدهار.
فللمرة الأولى تجري الانتخابات النيابية على وقع انهيار مالي وسخط شعبي، وللمرة الأولى ينتهي عهد رئاسي وتركيز الناس ليس على العهد الذي سيخلفه، إنما على جمهورية جديدة، وبالتالي سيكون من الصعب على الفريق الممسك بقرار الدولة تمرير التمديد النيابي والرئاسي، لأن اي تمديد لن يكون تمديدا للأمر الواقع القائم، إنما سيكون تسريعا للانتهاء من هذا الأمر الواقع.
ولا يختلف شعور الناس اليوم عما كانت عليه قبل نهاية الحرب اللبنانية بأنّ نظام الجمهورية الأولى انتهى من دون ان تكون على معرفة ودراية بنظام الجمهورية الثانية وكيفية الانتقال إليه، والشعور هو نفسه اليوم بأنّ نظام العام 1990 انتهى من دون ان تتمكن من تقدير طبيعة المراحل التي يمكن ان يجتازها البلد قبل الانتقال إلى الجمهورية الثالثة.
ولكن الثابت والأكيد في كل الصورة السياسية ان لبنان على عتبة تغيير جوهرية، وان السنة المقبلة قد تسرِّع في هذا التغيير إن من الباب الإقليمي مع المفاوضات النووية، او من الباب الداخلي بعدما أعطى النظام الحالي أقصى ما عنده ولم يعد من الممكن ترقيعه، وفي حالتي حصول الانتخابات النيابية او عدمها فإنّ السخونة السياسية ستكون سيدة الموقف للأسباب الآتية:
أولا، لأن الفريق الممسك بالسلطة سيخسر حكما الانتخابات النيابية، ولكنه لن يسمح بترجمة خسارته بخروجه من السلطة، ما يعني ضرب نتيجة الانتخابات بمنعها من التسييل حكوميا، الأمر الذي سيفاقم نقمة الناس مع اعتبارها ان المؤسسات الدستورية لم تعد تشكل المدخل للتغيير الذي يجب تحقيقه في الشارع.
ثانيا، لأن التمديد للبرلمان سيمنح الناس الضوء الأخضر للتغيير في الشارع بعدما سُدّت في وجهها سُبل التغيير من داخل المؤسسات، واستخدام الشارع على وقع انقسام سياسي وانهيار مالي وغضب شعبي يعني دخول البلد في المجهول.
ثالثا، لأنه في حالتي الانتخابات ومنعها من الترجمة حكوميا والتمديد للبرلمان ستكون البلاد أمام تشنُّج سياسي كبير، فيما الأزمة المالية تراوح من دون حلول عملية، وبالتالي لم يعد أمام الفريق الممسك بالسلطة القدرة على مزيد من شراء الوقت، إنما دخلت البلاد في المرحلة التي لا يُعرف فيها توقيت التغيير الكبير الذي تنتظره.
وفي هذا الوقت الذي دخلت فيه البلاد في زمن التغيير فإن أولويات القوى السياسية تتوزّع على الشكل التالي:
* أولوية «حزب الله» الحفاظ على الستاتيكو الحالي الذي يُبقيه ممسكاً بقرار الدولة، ولا يريد كل ما من شأنه ان يهزّ هذا الستاتيكو او يُسقِطه، وهو يخشى من الانتخابات النيابية ليس من زاوية بيئته الشيعية، إنما فقدانه للأكثرية من باب تراجع حليفه المسيحي، وبروز حالة تغيير قابلة للترجمة مسيحيا وسنيا وتقف ضد توجهاته السياسية، فضلا عن ان الحزب يفضِّل تجميد الوضع الداخلي بانتظار انقشاع الرؤية الإقليمية مع مفاوضات فيينا، ولذلك فإنه مع التمديد النيابي.
* أولوية الرئيس نبيه بري إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية وكان قد شكّل رأس حربة إتمامها في مطلع المهلة الدستورية في آذار كونه يريد ضمان ولاية جديدة لرئاسته للبرلمان بعيدا عن اي مفاجآت.
* أولوية الرئيس ميشال عون كانت وما زالت وستبقى رئاسية، وسيواجه كل ما من شأنه ان يُضعف حظوظ مواصلة إمساكه بالرئاسة إما تمديدا او باختيار من يخلفه، ومعروف ان ورقة التمثيل المسيحي شكلت ورقة القوة التي استخدمها في معركته الرئاسية ويريد استخدامها في معركة خلفه النائب جبران باسيل، ومعروف أيضا ان الانتخابات النيابية ستُفقد عون وباسيل هذه الورقة كونهما في أضعف وضعية تمثيلية منذ بداية صعود عون السياسي، ولذلك، لا مصلحة للعهد في انتخابات نيابية تُفقده إحدى أوراقه الرئاسية الأساسية.
* أولوية «القوات اللبنانية» إجراء الانتخابات النيابية في لحظة وطنية مواتية للتغيير بفعل الانهيار ويأس الناس من السلطة القائمة، وترى في الانتخابات محطة لتقدُّم مشروع الدولة وتراجع المشروع الآخر، فضلاً عن انها فرصة لإعادة الاعتبار لتوجهات المسيحيين السياسية بكونها ضد الخيار العوني المغطي لسلاح «حزب الله» ودوره، ومع الخيار التاريخي الذي يبدّي السيادة ويُعلي مشروع الدولة.
* أولوية تيار «المستقبل» عدم إجراء الانتخابات النيابية بسبب حسم رئيسه الضمني عدم الترشُّح للانتخابات وتأثير هذا القرار على قواعده وضُعف الماكينة التنظيمية وغياب الحضور السياسي وتشتُّت مواقع القوى وتقدُّم الزعامات المحلية، ولكن في حال جرت هذه الانتخابات فإنه يبقى التيار الأقوى سنيا، وهو الوحيد العابر للدوائر السنية.
* أولوية «الحزب التقدمي الاشتراكي» إجراء الانتخابات النيابية ليس فقط لأنه لا يخشى اي خسارة داخل بيئته، إنما من أجل توجيه رسالة إلى الرأي العام التغييري في الداخل والمجتمعين العربي والدولي بأنه مع إجراء الاستحقاقات في مواعيدها الدستورية، ولكنه لن يواجه اي رغبة من الثنائي الحزب والعهد بالتمديد.
* أولوية حزب «الكتائب» إجراء الانتخابات النيابية ترجمة للعناوين التي يرفعها سعيا لتغيير المنظومة الحالية، ولكن هذا لا ينفي خشيته من ان لا تساعده الانتخابات على توسيع كتلته، فيكون كل خطابه ورهانه على الثورة ذهب أدراج الرياح، ويضطر بعدها إلى مراجعة سياساته، وبالتالي هو في وعيه السياسي مع الانتخابات، وفي لاوعيه السياسي ضد الانتخابات لاستكمال مواجهته ضد المنظومة من موقع أقوى قد تضعفه او تكشفه الانتخابات.
* أولوية الجمعيات والشخصيات المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين عدم إجراء الانتخابات لإدراكها ان قوتها صوتية أكثر مما هي تمثيلية في انتخابات يتداخل فيها البعد السياسي مع المناطقي مع الخدماتي.
وفي سياق هذه الأولويات فإن الأكثر تضررا من الانتخابات النيابية هو «حزب الله» الذي سيفقد أكثريته النيابية وعامل الوقت لم يعد يخدمه في اي اتجاه، والرئيس عون الذي سيفقد أكثريته المسيحية عشية الانتخابات الرئاسية.