يعتقد أكثر من مصدر سياسي وديبلوماسي، انّ من الضروري ان يقتنع اللبنانيون بأنّ البلد في عهدة مجموعة عجزت عن مواجهة المصاعب التي يعانيها، وانّ مجمل الأزمات الى تفاقم بما فيها الديبلوماسية، بوجود من يعوق مساعي ترميمها. ففي مقابل الثابت من عجز في تلبية الشروط المطلوبة، ظهر انّ جولة ولي العهد السعودي الخليجية أقفلت ابواب المنطقة امام اللبنانيين بما فيها التي كانت مفتوحة نصف فتحة. كيف ولماذا؟
لم يكن أمراً عابراً الإعتراف الجريء لوزير الخارجية عبدالله بوحبيب اول امس، في إطلالته التلفزيونية، بصعوبة التجاوب مع مسلسل الشروط الغربية والخليجية تحديداً، وعدم القدرة على تلبية ما هو مطلوب من الحكومة الميقاتية في ظلّ الظروف الصعبة التي تحكّمت بولادتها وشكلها وبتركيبتها التي خالفت كل الشروط الدولية والأممية، بما فيها تلك التي استند إليها رئيسها. فالقول إنّها حكومة المبادرة الفرنسية لم يعد منطقياً ولا دقيقاً، بعدما خالفت الرغبات التي عبّرت عنها بنود هذه المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من قصر الصنوبر في بيروت مطلع ايلول 2020.
فالجميع من أهل البيت وخارجه، يدركون ما فعله اللبنانيون بهذه المبادرة التي فقدت تدريجاً معظم ما قالت به من مبادئ، كان يمكن لو التزموها بعد موافقتهم على 90 % منها، لكانت البلاد في مكان آخر منذ فترة طويلة. فقد غلب اللبنانيون الفرنسيون ومعهم من ناصرهم من المجتمعين العربي والدولي، ونجحوا في «لبننتها» ونزعوا عنها صبغتها التي قالت انّ ما يحتاجه لبنان هو «حكومة مهمّة»، وعليها ان تقوم بكذا وكذا وفق برنامج اولويات كان مبرمجاً بدقّة، قبل ان تتبخّر كل هذه السيناريوهات. فولدت حكومة افتقدت «المهمّة» التي وُجدت من اجلها ولم تصمد سوى 4 اسابيع، الى ان صحّت النظرية التي أطلقها رئيسها، معترفاً بوجود «حكومة» من دون «مجلس وزراء» وهو ما ادّى الى شلّها باكراً.
ورغم هذه المخاوف، فقد راهن اللبنانيون على جولة ماكرون الخليجية، فواكبوها لحظة بلحظة وتابعوا مضمون تصريحاته وتغريداته بما أوحت به من معادلات، اعتقد البعض انّها إيجابية قبل ان يكتشفوا انّ مضمونها بمنطق «السهل الممتنع» ان لم يكن «مستحيلاً». ولم تتدرج الأمور كما اشتهاها البعض، فجاء الإتصال الهاتفي المزدوج من ماكرون وبن سلمان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي ليغذّي مجموعة أحلام ما لبثت ان تبخّرت بعد ساعات قليلة لمجرد «الصمت المدوّي» الذي ميّز مواقف المستهدفين من فرنسا والمملكة وفي مقدّمهم «حزب الله»، وعدم إبداء أي ردّ فعل تجاه ما هو مطلوب منه لتسهيل مهمّات رئيس الجمهورية ومعه رئيس الحكومة والمعنيين بالقرارات الكبرى المطلوبة، وهو ما أدّى الى وضع تعهداتهم والتزاماتهم في سلال المهملات الإقليمية والدولية. كما جاءت ردّات الفعل الداخلية باهتة، لتقلّص من الآمال التي عُقدت على المبادرة الفرنسية ـ السعودية، طالما انّ الأجواء الدولية التي تظلّلها لم تكن مؤاتية. فالحسم غاب على مستوى المفاوضات الجارية في فيينا حول الملف النووي الإيراني المترنحة بين الفشل والنجاح المحدود. كما على مستوى تعثر المفاوضات السعودية - الإيرانية المجمّدة منذ 20 أيلول الماضي.
وعليه، تراجعت كل السيناريوهات التي أوحت بإمكان التوصل الى اي خطوة ايجابية. فما حصل لم يكن كافياً لإرضاء من منّن النفس بخطوات عملية تؤشر الى احتمال وجود مخرج لبعض الأزمات المعّقدة، ولو من باب الدعوة التي تمنّاها ماكرون لإحياء جلسات مجلس الوزراء. فتبين للمراقبين انّه حلم بعيد المنال لأكثر من سبب داخلي وخارجي. فما كان مطلوباً لإرضاء «الثنائي الشيعي» من الداخل لم يتحقق، لا بل فإنّ المنحى القضائي الذي اراده لـ «قبع» قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار يمضي بعكس ما يشتهيه مريدو ذلك. وجاءت الشروط الخارجية التي تضمنتها مجموعة البيانات التي واكبت جولة ماكرون من أبو ظبي والدوحة وجدة، عدا عن البيانات المشتركة، لتضيف شروطاً خارجية جعلت من بعض المناقشات الجارية، والتي ارتبطت بنتائج استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي وانعكاساتها، هزيلة وضعيفة ان لم تكن سخيفة جداً. فالمشكلة اكبر بكثير والعِقَد الموجودة اصعب بكثير ولا يمكن مقاربتها بهذه البساطة.
وكأنّ ذلك لم يكن كافياً، وفي الوقت الذي كانت بعض الجهود تُبذل في الداخل لملاقاة المواقف الفرنسية والسعودية، وفي انتظار الخطوات الفرنسية اللاحقة، التي وضعت لها رسالة الرئيس الفرنسي الى نظيره اللبناني ضوابط قاسية وشروطاً معقّدة وصعبة، لتزيد من حَرج المسؤولين اللبنانيين العاجزين عن القيام بأي خطوة، ما لم يساهم في بلورتها «حزب الله» الذي تعاطى مع ما هو مطروح بصمت مدوٍ أحيا المخاوف من إمكان تحقيق اي انجاز رئاسي او حكومي. وما زاد في الطين بلّة، سيل المواقف التي تضمنتها البيانات المشتركة التي رافقت الجولة الخليجية التي بدأها ولي العهد السعودي على ملوك دول مجلس التعاون الخليجي وأُمرائها، لتزيد من نسبة الضغوط على أهل الحكم في لبنان، ولتثبت عجزهم عن القيام بالحدّ الأدنى مما هو مطلوب.
وعلى هذه القواعد، رصدت المراجع المعنية مضمون البيانات المشتركة التي صدرت من مسقط وابو ظبي والدوحة والمنامة، التي استنسخت مضمون البيان الفرنسي ـ السعودي المشترك بمفرداته ومعادلاته الدقيقة، فألقت مزيداً من الأعباء على اهل الحكم، وفرضت مزيداً من الضغوط لنسيان ما بُني على الجولة الفرنسية. فما لم تشمله جولة ماكرون غطّته جولة بن سلمان، ليقفل العواصم الخليجية التي تريثت في مجاراة العقوبات السعودية القاسية امام طموحات من راهن من أهل الحكم على مبادرات خليجية إفرادية يمكن ان تصدر عن هذه الدولة او الإمارة او تلك. فقد انتهت اللعبة، واصطفت جميعها الى جانب ولي العهد السعودي في توصيفه للأزمة اللبنانية ومعه في خياراته الاقليمية بنحو حاسم. وهو ما استبقه وزير الخارجية عبدالله بوحبيب عندما اعترف مسبقاً بأنّ «لا قدرة لنا في الحكومة على القول لـ»حزب الله» بالتدخّل او عدم التدخّل في سوريا او اليمن... وبحسب ما يقولون لنا انّهم لا يتدخّلون».
وعليه، وبعيداً من الغوص في الأجواء السلبية التي تظلّل البلاد، فإنّ اي مخرج لأي شكل من اشكال الأزمات بات وقفاً على مفاجأة تصدر من الضاحية الجنوبية لبيروت او من طهران. وهي توقعات «عجائبية» مستبعدة في الوقت الراهن، لأنّ المعادلات التي حكمت موازين القوى في اليمن وسوريا لم تتبدّل، وليس هناك أي أمل في أي متغيّرات يمكن ان تأتي من فيينا او بغداد، ما سيؤدي حتماً الى اقفال كل عواصم الخليج أمام رؤية لبنان لحل المشكلة وسبل معالجتها، وإلى أمد غير محدّد.