الجميع في لبنان يهذون حتى كاتب هذه السطور. مجتمعٌ بأكمله يهذي، بقادته وأحزابه وسياسيّيه واقتصاديّيه ومصرفيّيه ورجال دينه وناس العاديّين وحتى بثوريّيه.
يهذي اللبناني حول أفضليّته بين الشعوب المجاورة، فهو الأفضل مع أنّ الشعوب الأخرى كانت تُمارس عليه دائمًا وصايتها منذ نشأة لبنان الكبير.
ويهذي اللبناني حول السيادة، وهو يعرف ضمنًا أن لا سيادةَ في لبنان حتى بنسبةٍ معقولة. حتى من يتحدث عن السيادة يتعامل مع، ويتبع دولةً خارج الحدود. لاحظنا ذلك في تعامل البعض مع مواقف قرداحي، فجاءت الاستقالة لتثبت أنّ سيادة لبنان منقوصة.
ويهذي قادة لبنان حول المستقبل الذي يصنعونه والذي يؤمِّلون اللبنانيّين به مع أنّ الواقع يثبت عكس ما يقولونه تمامًا.
كما يهذي رجال الدين حول أفضليّة الطائفة التي ينتمون إليها مع أنّهم أنفسهم يقدّمون مثالًا سيئًا عن الطائفة الفضلى بالذات.
ويهذي اللبناني أيضًا حول خسائره في البنوك، فهو ما زال يتأمّل أنّها سترجع يومًا على حصانٍ أبيضَ متجاهِلًا أنّ الأموال لم تُسرق وحسب، بل وصُرِفت في غالبيّتها.
ويهذي اللبناني حول مستقبل بلده. فهو ما زال يعتبر أن لا غنًى عن لبنان وأنّ الدول الكبرى لا تنام الليل من أجل لبنان، وهي ستهبّ، عاجلًا أم آجِلًا، لإنقاذه.
ويهذي اللبناني حول وضعه الاقتصادي، فقد تصرّف قبل الانهيار وما زال يتصرّف كأن لا أزمةَ في لبنان. كان اللبناني يصرف أضعاف ما يستحقّ، وما يحتمل اقتصاده.
ويهذي الموظف العام حول حقوقه ومكتسباته متجاهِلًا أنّ البلد قد انهار تمامًا.
ويهذي،…
ويهذي،..
وأخيرًا، يهذي الثوريّ عندما يقتنع بأنّه قادرٌ على تغيير واقعٍ عمره ماية سنةٍ من عمر دولة لبنان وتغيير واقعٍ تتشابك فيه معادلاتٌ إقليميّةٌ ودوليّة. فبنية الفساد في لبنان عمرها من عمر لبنان وهي متغلغِلةٌ في نسيج المجتمع اللبنانيّ بأكمله. والقوى الحاكمة في لبنان ذات ارتباطاتٍ إقليميّةٍ ودوليّة. وبقاؤها مرهونٌ بالتوافقات في الإقليم والعالم. لذا، لا يمكن لثورةٍ تهذي أن تنجح. ما بإمكاننا أن نصنعه هو أن نغيِّر على المدى الطويل، وأن نغيِّرَ بالقطعة ريثما تسمح لنا الظروف الإقليميّة والدوليّة أن نغيِّر بلدنا تغييرًا شاملًا.
ويا للأسف! نحن محكومون بمصالحَ إقليميّةٍ ودوليّةٍ سنصدم رؤوسنا بها ما إنْ نطمح إلى التغيير الشامل. فالتغيير الشامل الذي يهدف إلى بناء دولةٍ نموذجيّةٍ حديثةٍ لا يناسب إسرائيل أوّلًا، ولا الدول العربيّة ثانيًا لأنّها دول آنتي-حداثويّة، ولا إيران وتركيا ثالثًا لأنّ لهما مصالح كبرى في المنطقة العربية، ولا أوروبا ولا أميركا ولا غيرهما رابعًا.