على رغم عدم رشوح أيّ مطالب سعودية أو خليجية علنية ورسمية من لبنان للتراجع عن قطع العلاقات الديبلوماسية معه والقرارات الأخرى التي اتخذتها هذه الدول تجاهه أخيراً، يَدلّ إصرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على دعوة وزير الإعلام جورج قرداحي الى «تحكيم ضميره وتغليب المصلحة الوطنية على الشعارات الشعبوية»، بما يعني تقديم استقالته، الى أنّ هذه الخطوة أساسية في طريق معالجة الأزمة مع بعض دول الخليج، ولا سيما السعودية.
حتى الآن، لا تلقى دعوة ميقاتي هذه لدى قرداحي أُذناً صاغية، لا سيما انه يربط استقالته بضمان مسبق لاتجاه السعودية الى حلحلة الأزمة بعدها. كذلك أتى الرد من «حزب الله» على ميقاتي سريعاً، فبعد كلام رئيس الحكومة أمس الأول سارعَت كتلة «الوفاء للمقاومة» بعد اجتماعها، الى تحميل السعودية «مسؤولية افتعال الأزمة الأخيرة مع لبنان». ودانت «الإملاءات الخارجية حول خطوات عمل الحكومة، إزاء هذه المسألة»، بما يعني عدم قبول «الحزب» باستقالة قرداحي أو إقالته، تماماً كما كان أعلن نائب الأمين العام لـ»حزب الله» نعيم قاسم، والذي ذهب في اتجاه تصعيدي، فكال الاتهامات للسعودية وطالبها بالتراجع عن «عدوانها» والإعتذار.
ad
لكن على رغم هذه المواقف ومرور 10 أيام على الأزمة مع السعودية، ما زالت استقالة قرداحي «سارية الصلاحية» مدخلاً لحلحلة هذه الأزمة. وفي حين يعتبر الفريق الداعم له، وفي مقدّمه «حزب الله»، أنّ الأزمة الأخيرة مع السعودية ناشئة ظاهرياً من كلام قرداحي، وأبعد من تصريحه وأقرب الى الجغرافيا السعودية، ومرتبطة تحديداً باليمن وما يجري في مأرب، تعتبر أوساط عدة مطّلعة أن استقالة قرداحي ضرورية لكي توقف «المزاد العلني بين المسؤولين في لبنان وخارجه بالمواقف والعنتريات»، وإذ ترى أنّ هذه الاستقالة وحدها لا تحلّ الأزمة، تعتبر أنّها مقدمة وفَتح لباب التواصل بين لبنان والسعودية بِنيّة جيدة.
كذلك توضح مصادر ديبلوماسية لبنانية مطّلعة أنّ تصريح قرداحي ومواقفه معروفة منذ ما قبل تولّيه الوزارة، وأنّ الأزمة مع السعودية ليست وليدة اللحظة بل نتيجة تراكمات، ولقد أعلن وزير خارجية السعودية ذلك بكلّ وضوح. وقد يكون السعوديون يريدون أمراً معيناً و»كَبّروا الحجر» لكي يصلوا إليه، وهو غير معروف حتى الآن، فلا حوار مباشرا ولا وساطة معهم بعد. لكن بمعزل عن ذلك، وقعنا في الأزمة، و»التنفيسة الاولى» لها هي استقالة قرداحي، خصوصاً أنّه بدلاً من حصولها حصل العكس، فالذين يدعمون قرداحي بدلاً من أن يمتصوا الغضب الخليجي باستقالته يعمدون الى رفع السقف، وبالتالي إنّ استقالته لا تحلّ الازمة لكنها مبادرة «حسن نية» لتنفيس هذا الزخم والتخفيف من التشنج والتمهيد لوساطة مع السعودية للبحث في المطلوب من لبنان.
لذلك على قرداحي أن يستقيل اليوم قبل الغد، بالنسبة الى هذه المصادر، وبعدها نرى ماذا يُمكن أن نفعل من خلال وساطة، خصوصاً أنّه لا يُمكن «تسخيف» تصريحه كما هو حاصل اليوم. كذلك إنّ السؤال مطروح لدى السعودية عن الغاية من الإتيان بقرداحي وزيراً على رغم معرفة موقفه وموقعه، ولا يُمكن فتح أي حوار أو توسّط دولي معها في هذا الإطار، من دون مبادرة لبنانية أولاً. لذلك إنّ «كلمة» من «حزب الله» لاستقالة قرداحي أو إقالته، كفيلة بـ»كسر التشنج»، أو أقلّه تظهر أنّ لبنان «قام بما عليه»، ما يُسهّل مهمة أي وسيط ويجعل الكرة في ملعب السعودية.
وفي حين هناك انّ هناك خطا أحمر دوليا على سقوط الحكومة، وكانت رسالة واشنطن واضحة في هذا الإطار عبر وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن الذي أكد خلال لقائه ميقاتي على هامش مؤتمر المناخ الدولي قبل أيّام، أنّ بلاده تدعم «استمرار جهود الحكومة»، تؤكد المصادر الديبلوماسية أنّ استمرار الحكومة يريده الجميع، الأميركيون والفرنسيون والأوروبيون والفاتيكان والشرق والغرب، وأي من هذه الجهات لا يريد سقوطها. فهي ليست موضوع الأزمة ولا استقالتها تحلّها، بل تترك البلد الى المجهول الذي لا يريده أحد، إضافة الى انّ المجتمع الدولي والأميركيين تحديداً ينتظرون موعد الانتخابات ويريدون لهذه الحكومة التي وُلدت بعد مخاضٍ عسير أن تديرها، على رغم ظهور التسييس الكامل في الحكومة كأنّ شيئاً لم يحصل منذ عام 2019، فغالبية الوزراء متمترسون سياسياً ولا يختلفون عن أي وزير في الحكومات السابقة المتعاقبة، فالوزراء الشيعة بإيعاز من «حزب الله» وحركة «أمل» أوقفوا عقد جلسات مجلس الوزراء، وقرداحي قراره مرتبط بكلمة رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية وحلفائه، وفضحت الردود والردود المضادة بين عدد من الوزراء على اثر الأزمة مع الخليج الاصطفافات السياسية المعهودة.
على رغم ذلك، ولأنّ استقالة الحكومة لا تعني أنّ «البديل المثالي» جاهز، بل العكس تماماً، يتمسّك الغرب بهذه الحكومة، والمطلوب منها أقلّه إمرار التفاوض مع صندوق النقد ومعالجة ملف الطاقة وصولاً الى الانتخابات. ويأتي هذا التمسك بالحكومة أيضاً انطلاقاً من أنّ الخارج لا يريد الفوضى أو أي اشتباك عسكري في لبنان. لكن هذا لا يعني أنّه «سيموت من الجوع إذا جاع اللبنانيون». وبالتالي لا يكفي التعويل على الخارج، وانتظار زيارة من هنا أو لقاء دولي من هناك، خصوصاً أنّ الأزمات تتناسل في لبنان في وقتٍ قليل وبسرعة دراماتيكية، فواجهت هذه الحكومة، في 10 أيام وليس خلال 10 سنوات، أزمات حادة لا مشكلات فقط.
وبالتالي إنّ الدول، وتحديداً منها الغربية، «مش عم تلحِّق» على المصائب في لبنان، بحسب المصادر إياها، ولا يمكنها المساعدة في كلّ شيء. وعلى سبيل المثال، حاولت باريس وواشنطن حضّ السعودية على دعم لبنان، قبل الأزمة الأخيرة، ولم تفلحا. وبالتالي، كيف يمكن الآن ومن دون أي مبادرة وقرار من لبنان حلّ الأزمة مع السعودية؟