ظنّ السيد حسن نصرالله أنّ بإمكانه ان يقتبس في العام 2021 دور الجنرال ميشال عون في العام 1988 في الهجوم على «القوات اللبنانية» وشَيطنتها، ولكن فاته انّ الزمن تبدّل أولاً، وانّ مهاجمة «القوات» من موقعه ثانياً تختلف عن المواجهة التي خاضها عون من موقعه في ثمانينات القرن الماضي.
عندما عَيَّن الرئيس أمين الجميّل العماد عون رئيساً لحكومة انتقالية في العام 1988 كانت الناس قد سئمت الحرب بعد 13 سنة على اندلاعها، ومَلّت من الاقتتال والحواجز وصعوبة التنقُّل ومرارة العيش. وكانت تريد العودة إلى حياة طبيعية، فخرج عليها الجنرال المعيّن في الموقع الرئاسي حديثاً واعداً بلبنان الذي تريده، ومتوعّداً الميليشيات ومستفيداً من بزّته العسكرية التي ترمز إلى الدولة والشرعية.
نجح العماد عون في ثمانينات القرن الماضي في شيطنة «القوات» من موقعه العسكري، مستغلاً تعب الناس من الحرب ومخاطباً وَعيهم بأنّ استمرار الميليشيات يعني استمراراً للحرب، ومركّزاً على تجاوزات تحوّلت إلى تراكمات بدأت مع مطلع الأحداث، ومحرِّضاً ضد «القوات» ودورها «التقسيمي والانعزالي»، ومصوّباً على خُوّات تعتبرها الناس جزءاً من حقوقها... وإلى ما هنالك من مضبطة اتهام نقلت عون من رئيس لحكومة انتقالية إلى قائد شعبي يريد إنهاء الحرب وبناء جمهورية السلام.
ولن نستفيض في خلفيات شيطنة العماد عون لـ»القوات» والتعامل معها وكأنها الميليشيا الوحيدة في لبنان، ولا في خلفيات هدفه الأوحد في الحياة وهو الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وتوظيف اي شيء في خدمة هذا الهدف الذي حوّله من رجل الدولة ضد الميليشيات إلى حليف الميليشيا التي لا علاقة لها بلبنان («حزب الله») من أجل ان تشكّل رافعة لدخوله عتبة القصر الجمهوري. وبالتالي، لن ندخل في كل ذلك لأن الهدف هو المقارنة بين شيطنة فَعَلت فِعلَها وأخذت وقتها قبل ان تكتشف الناس الصورة على حقيقتها وينقلب السحر على الساحر، وبين شيطنة أطلقها السيد نصرالله تُشكّل خدمة لـ»القوات».
فالشيطنة التي مارسها العماد عون ضد «القوات» في ثمانينات القرن الماضي ونجح بها، لم يعد قادراً على فِعلها اليوم وهو في موقع الرئاسة الأولى، لأنّ الناس اكتشفته على حقيقته والجمهورية انهارت في عهده للمرة الثانية على التوالي. ولكن ما ينطبق على عون لا ينسحب على نصرالله، لأنّ الشيطنة التي أعلنها عون قادَها من موقع رمزية الجيش والدولة، فيما تلك التي أعلنها نصرالله في الأمس يقودها من موقع الميليشيا، ومع فارقٍ أساس هو انّ خَوضه لها لم يحصل في تسعينات القرن الماضي عندما كان مُغطّى من قبل الاحتلال السوري وساعياً إلى ترويج صورته كمقاوم لإسرائيل نجح في جَعل صوره تُرفع في العواصم العربية، قبل ان يبدأ بالانكفاء التدريجي إلى داخل الضاحية الجنوبية.
فهل يعقل ان يخصِّص السيد نصرالله خطاباً لأكثر من ساعتين عنوانه التحريض ضد «القوات اللبنانية» على خلفية اشتباك أهليّ يعرف ضمناً انه المحرِّض إليه والدافع له؟ هذا التحريض كان مبررا لو كانت «القوات» هي التي دعت إلى تظاهرة على حارة حريك، ولكنه غير مفهوم لتظاهرة وُجّهَت عن سابق تصور وتصميم إلى منطقة معروفة الهوية وراحت تحطِّم كل ما صادفته، وكان قد سبقها تعبئة ممنهجة ضد المحقِّق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، واستطراداً ضد العدالة.
ألا يوجد في قيادة الحزب من يعرف البلد جيداً ليقدِّم للسيد نصرالله النصيحة بأنّ هجوماً من هذا النوع يقوّي «القوات» لا يضعفها، لأنه ميليشيا مسلحة أولاً، ولأنّ مشروعه الذي يجاهر به يتراوح بين السيطرة على لبنان وبين تشييعه ثانياً، ولأنّ ما حصل في عين الرمانة ليس استثناءً ثالثاً، بل القاعدة التي يتّبِعها الحزب في كل مرة يعجز فيها عن تحقيق أهدافه عبر الوسائل السياسية؟
ألا يوجد في قيادة الحزب مَن ينصح السيِّد نصرالله بأنّ موقعه لا يسمح له بشيطنة «القوات»، وذلك للأسباب الآتية: لأنه اشتبك معها بعد اشتباكه الميداني مع «المستقبل» و»الاشتراكي» و14 آذار مجتمعة ومع مختلف البيئات اللبنانية، ولأن المحكمة الدولية جَرّمت أحد قيادييه في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ولأنه رفض المحكمة الدولية والمحكمة اللبنانية، ولأنه استخدم سلاحه في أكثر من محطة أبرزها في أيار 2008، ولأنه صُنِّف من أكثر من دولة غربية وعربية بالمنظمة الإرهابية، ولأن دوره أدى إلى عزل لبنان وتغييب الدولة... وبالتالي، بعد كل ذلك وغيره لا يستطيع السيد نصرالله لا التحريض ضد «القوات» ولا شيطنتها.
وكيف يمكن ان يتّهم «القوات» بالتقسيم وهو يقيم كانتونه الخاص؟ وكيف يمكن ان يقنع اللبنانيين بأنّ «القوات» ضد الدولة وهو يرفض تسليم سلاحه للدولة؟ وكيف يمكن ان يصوِّب على «القوات» من زاوية التسلُّح وهو مدجّج بالسلاح؟ وكيف يمكن ان يتهِّم «القوات» بأنها تنفِّذ سياسة محور خارجي وهو يُقرّ ويعلن بأنه رأس حربة المحور الإيراني؟ وكيف يمكن ان يحرِّض المسيحيين ضد «القوات» وهو يحدِّثهم عن امتلاكه 100 ألف مقاتل؟ فهل يتوقّع مثلاً انصياعهم لإرادته ومشيئته ام الاصطفاف خلف «القوات» سعياً إلى 100 ألف جندي في الجيش اللبناني؟
وإن دَلّت إطلالة السيد نصرالله التحريضية ضد «القوات» على شيء، فقد دلّت على صورة «حزب الله» الحقيقية خلافاً لما يعتقده البعض بأنه الحزب المخَطِّط والاستراتيجي. أي انها دلّت على صورته الانفعالية التي يُحكِّم فيها الغريزة لا العقل، وأكبر مثال على ذلك إعلانه 7 أيار يوماً مجيداً، اي انّ احتلال بيروت والجبل وقتل الأبرياء هو يوم مجيد، وترقيته المتهمين باغتيال الشهيد الحريري إلى مرتبة القديسين، وقِس على ذلك من مواقف تدلّ على تهور الحزب وتسرّعه في إطلاق المواقف والاتهامات.
صحيح ان «القوات اللبنانية» هي النقيض لـ»حزب الله»، بدءاً من مسيرتها القتالية في مواجهة المحور الذي ينتمي إليه الحزب، وصولاً إلى عقيدتها التي تتجسّد في لبنان التاريخي الذي يريد الحزب تغيير هويته. وصحيح أيضاً ان المواجهة مع «القوات» تشكل استمراراً للمواجهة مع 14 آذار ومكوناتها، ولكن الصحيح ايضاً انّ التعايش الاضطراري مع هذا الواقع تواصَلَ في أبشع فصوله منذ العام 2005. وبالتالي، ما المقصود في الشيطنة اليوم؟ وما هو أفقها؟ وماذا يريد من خلفها؟ وهل انتهت الأمور عند هذا الحد؟ وإذا كان لا يدرك أنّ شيطنته لـ»القوات» تفيدها وتعزِّز دورها فهذه مصيبة وخَلل بِنيوي في توجّه قيادة الحزب وتقديراتها السياسية. أمّا إذا كان يدرك بأنها تفيد القوات سياسياً، وهو ليس في موقع تعزيز موقعها طبعاً، فما الذي يريده من هذه الشيطنة وما التتِمّة لها؟ وهل يعتقد مثلاً انّ بإمكانه تكرار تجربة مطلع تسعينات القرن الماضي؟ وإذا كان يعتقد ذلك فهذا يعزِّز صورته الانفعالية، والتي تُخطئ التقدير، إذ انّ اي مواطن عادي من دون معلومات ولا معطيات يُدرك انّ ظروف اليوم تختلف عن ظروف الأمس ليس أقل من 180 درجة. ّ
ويبقى ان شيطنة جنرال تختلف عن شيطنة أمين عام، فتلك نجحت لفترة مديدة من الزمن قبل ان ترتدّ عليه، أمّا شيطنة الأمين العام فتتحول تلقائياً إلى تَأليه. فهل أخطأ السيِّد؟ وهل يدرك ان شيطنته تحوِّل «القوات» من «قوات لبنانية» إلى «قوات الله» في مواجهة «حزب الله»، علماً انّ مواجهته هي مع جميع اللبنانيين الذين يريدون لبنان مساحة حياة واستقرار وازدهار لا مساحة موت وعدم استقرار وانهيار؟