في زمن الخلافة الإسلامية لم يكن النظام المعتمد ليعترف لأهل الكتاب من يهود ونصارى بأية حقوق سياسية، بالرغم من معاملتهم كمجموعات لها وضعها الخاص داخل المجتمع الإسلامي. مع بداية القرن التاسع عشر، وبعد احتلال القائد الفرنسي نابليون بونابرت لمصر، عرف الشرق تحولات جذرية، لم يعهدها سابقاً، انتهت باعتماد إصلاحات دخلت في صيغة التنظيمات العثمانية، وشكل لبنان خلال ذاك القرن ميدانا لصراعات محلية وإقليمية ودولية عنيفة أطاحت بالإمارة الشهابية وأحلت محلها نظام القامقائمتين أولاً ثم نظام المتصرفية، وفيه عرف صيغة التمثيل الطائفي في ادارة الدولة.
ثمة ثلاثة محطات رئيسية ألزمت النظام الإسلامي بالإعتراف بدورٍ ما في ممارسة السلطة لغير المسلمين؛ المحطة الأولى مصرية، تمثلت بنظام الدواوين الذي اعتمده نابليون بونابرت خلال حملته على وادي النيل، والثانية سورية – لبنانية – مصرية قوامها المجالس التي أنشأها ابراهيم باشا في المدن السورية الكبرى وفي بيروت بين عامي 1831 و1840، والثالثة هي محض لبنانية تمثلت في مجالس القائمقاميتين.
1 – نظام الدواوين - ديوان القاهرة
ما عُرف بـ "ديوان القاهرة" كان الهيئة الطائفية الأولى ذات الصفة التمثيلية في المشرق العربي، فقد أنشأه نابليون في القاهرة، بعد استيلائه عليها في العام 1798، وكان مجلساً استشارياً من تسعة أعضاء. أنشأ بعد ذلك ديواناً عاماً تمثلت فيه مختلف مناطق مصر بمشايخها واعيانها وتجارها، كما تمثل القبط وتجار بلاد الشام المسيحيين، ويذكر محي الدين الجبرتي في كتابه "تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أن ملطي القبطي عيُّن قاضيا" للديوان ونظّم لهم "فرمان الشروط والمناقشة".
واستنادا الى الجبرتي، فقد أنشأ الفرنسيون في مصر، الى جانب هذين المجلسين "ديوانا آخر سمّوه محكمة القضايا وكتبوا في شأن ذلك "طومارا" ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط وستة أنفار من المسلمين وجعلوا قاضيه ملطي القبطي وفوّضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى..."
وطوّر نابليون الهيئات الناظمة لشؤون العامة – وربما متأثراً بمبادئ الثورة الفرنسية في العام 1789 بالحرية والعدالة والمساوة – فعيّن مجلساً أسماه "الديوان العمومي" من ستين عضواً اختيروا من بين المشايخ والعلماء والتجار والصنّاع. ومن بينهم كانت الهيئة الفاعلة المؤلفة من أربعة عشر عضواً (سبعة من المسلمين وسبعة من النصارى) عرفت بالديوان الخصوصي، وكان في هذا الديوان خمسة من المسلمين من المشايخ والعلماء، وإثنان من التجار، وتمثل الأقباط بإثنين ونال التجار الفرنسيون مقعدين وعين طبيب سويدي من سكان القاهرة عضواً، ونال التجار "الشوام" مقعدين (هما يوسف فرحات وميخائيل كحيل). وكان الديوان الخصوصي يتفقد كل يوم النظر في قضايا الناس ومصالحهم، وعُهد إليه توقيع البيانات التي كانت توجه الى الشعب في شتى المناسبات.
"إن الغرض من الديوان العام هو القيام بمحاولة لجعل الأعيان المصريين يعتادون على نظام المجالس التمثيلية والحكومات. قولوا لهم إني دعوتهم لأستشيرهم ولأطلع على آرائهم في ما يعود على الشعب بالرفاهية"؛ كم كان واضحاً نابليون بونابرت في هذا الكلام الذي وجهه للمندوبَين الفرنسيين في الديوان الخصوصي، بأن السطة ما بعد الثورة الفرنسية هي مشاركة وتمثيل، وقد بدأوا من ذاك التاريخ "يعتادون" فتأسست المجالس لرسم ترتيبات جديدة في سياسة ابراهيم باشا، ولا سيما في سوريا ولبنان، ومنها الى نظام الإدارة العثمانية.
2 - نظام الدواوين الطائفية الى الولايات السورية مع بداية الحكم المصري
بعد أن استتب له الأمر، في العام 1831 أنشأ ابراهيم باشا مجالس تمثيلية على أساس طائفي في المدن الرئيسية في الولايات السورية التي دانت له، عُرفت بمجالس الشورى أو بدواوين المشورة. وفي بادرة تنمُّ على التسامح الذي سوف يعتمده في إدارة الولايات، ألغى كل الرسوم التي كان يدفعها الحجاج المسيحيون واليهود لزيارة الأراضي المقدسة في فلسطين.
في بيروت تأسس أول مجلس شورى في كانون الثاني 1834 من إثني عشر عضواً من بين أعيان المدينة ستة منهم من المسلمين وستة من المسيحيين، نقرأ من أرشيف البطريركية المارونية في بكركي: " ... أمر ابراهيم باشا يصير ديوان شورة في بيروت وجعل إثني عشر رجل من أكابر بيروت، أصحاب فطنة.. وهم ستة إسلام: عبدالفتاح حمادة، ناظر المجلس، عمر بيهم، أحمد العريس، حسن البربير، أمين رمضان واحمد جلول. وستة نصارى وهم: جبريل حمصي، بشارة نصرالله، الياس منسى، ناصيف مطر، يوسف عيروت، موسى بطرس."
وكان ديوان دمشق تاسس في حزيران من العام 1832 وترأسه يوحنا بحري بك وهو من الروم الكاثوليك، وقد وصفه لنا معاصر دمشقي (والكلام للباحث الدكتور انطوان الحكيّم مقتطف من كتاب "بحوث مهداة الى الدكتور جان شرف") على النحو التالي:
" وبيومها رتّب ابراهيم باشا ديوان حكم من عشرين زلمه من أعيان البلد ومن اعيان النصارى وواحد من اعيان اليهود وسمّاه ديوان المشورة لأجل ان تنظر في دعاوى الرعية والميري، وبطُل الحكم من السرايا... ومشى الرعايا جميعهم بالسويّة، النصراني واليهودي والمسلم حكمٌ واحد".
وقد لفت قنصل انكلترا في الإسكندرية كامبل Campell في رسالة الى حكومته عام 1836 الى دور مجالس الشورى في ادخال تحسن ملموس على تنظيم القضاء في سوريا، فكتب: "إن المسائل المتعلقة بالرسوم والضرائب والخلافات التجارية وبالديوان المدنية وما شابهها تحال على مجلس الشورى... وأعضاؤه ليسوا حصراً من المسلمين، بل إن بينهم عددا كبيرا من المسيحيين وحتى من اليهود". ويضيف أن درجات الإستئناف متوفرة "يمكن استئناف أحكام القاضي أمام المفتي، واحكام مجلس الشورى أمام امثاله من مجالس المدن الكبرى أو امام الحاكم العام".
لقد نجحت محاولة تكوين مجالس تمثيلية في فرض نفسها بفضل التحولات المؤاتية التي أصابت سلطنة بني عثمان في القرن التاسع عشر. وقد سعى الباب العالي الى تحقيق المجالس التمثيلية بتشجيع من الدول الأوروبية، مقابل الحصول على دعم تلك الدول في تقديم المساعدة اللازمة لإعادة تأهيل جيشه لمواجهة الجيش المصري وطرده من سوريا، وعندها اشترطت عليه اجراء إصلاحات داخلية جذرية وتحسين اوضاع غير المسلمين، فكان أن رضخ السلطان عبدالمجيد للأمر واعلن عام 1839 برنامجه الشهير المعروف بـ "خط كلخانة"، باعتماد اصلاحات ستعود بالنفع على رعايا السلطنة كافة ودون استثناء مهما كان دينهم ومهما كان مذهبهم. وفي هذه الجملة الخيرة نقطة الأوج في خط كلخانة، وفيها يعلن السلطان – الخليفة وللمرة الأولى في تاريخ الدولة الإسلامية مبدأ المساواة بين المسلمين وأهل الذمة وايضاً بين المذاهب داخل الديانة الواحدة.
3 – جبل لبنان والتمثيل الطائفي
نالت التجربة الجديدة في التمثيل اعجاب الإمارة اللبنانية، وصارت مطلباً للسكان. وكانت البادرة الأولى من قائد الجيوش العثمانية في العام 1841 في أمر الى اللبنانيين يطلب منهم أن يؤسسوا مجلساً طائفياً في الجبل "للقطع في الخلافات والمنازعات وفقا للشرائع". يترأس المجلس الأمير الشهابي يشير الثالث ويحق له انتداب وكيل عنه، أما الأعضاء فعددهم عشرة موزعون على الطوائف كالتالي: ثلاثة أعضاء من الطائفة المارونية وثلاثة من الدرزية، ومسلم واحد وأرثوذوكي واحد وروم كاثوليك واحد وشيعي واحد ويضاف اليهم كاتب.
لم يرضَ المقاطعجية الدروز بهذا المجلس "لأن الديوان يوقفهم عن اطلاق حريتهم بسياسة رعاياهم" – وفق المؤرخ طنوس الشدياق في كتابه "أخبار الأعيان في جبل لبنان". وكان هذا الرفض ملائماً لتوجهات السلطنة التي أقدمت بعد عام واحد على تعيين حاكم تركي على الإمارة هو عمر بك النمساوي. ودخل الجبل في موجة من الاضطربات، ففشل الحاكم التركي الجديد في مسك السلطة، فتبنى سفراء الدول في العاصمة العثمانية في أيار 1842 اقتراحا كان تقدم به المستشار النمسوي مترنيخ يقضي بتقسيم الإمارة الشهابية الى قائمقاميتين، جنوبية وشمالية او درزية ومارونية تفصل بينهما طريق الشام. وبناءاً لأوامر الباب العالي عيّن أسعد باشا والي صيدا الأميرحيدر أبي اللمع قائمقاماً على النصارى والأمير أحمد أرسلان قائمقاماً على الدروز.
واجه نظام القائمقاميتين منذ ولادته صعوبات كبيرة وبدا هشاً، فقد رفض المورنة هذا التقسيم وأعادوا المطالبة بعودة الشهابيين الى الحكم وان إجحافً كبيراً لحق بهم وبسائر الطوائف المسيحية بسبب فصل بلاد جبيل عن القائمقامية الشمالية وإخضاع النصارى في القائمقامية الجنوبية للسلطة الدرزية. وتجدد القتال في العام 1845 بالرغم من محاولات السلطنة العثمانية، نزولا عند رغبة الدول الراعية لهذا التقسيم، بإخراج دير القمر من سلطة الأسرة النكدية وإلحاق منطقة بعبدا بالقائمقامية الشمالية. وأوفد الباب العالي وزير خارجيته شكيب أفندي الى لبنان وأجرى تعديلات بإنشاء مجلس طائفي في كل قائمقامية – بما يتناسب مع الوضع الديمغرافي للسكان في ذاك الزمن، وحدد مهامهما، بحيث يؤلف كل مجلس من "وكيل قائمقام وقاض ومستشار من المسلمين ومثلهما من الدروز والموارنة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك ومستشار من الشيعة، ينتخبون ويعينون بمعرفة مطارنة وعقّال كلتا الطائفتين".
اعتبرت اصلاحات شكيب أفندي حلاً وسطاً توصل إليه الفرقاء بعد الأحداث التي عصفت بالجبل بين 1831 و1845. وما التمثيل الطائفي الذي اعتمد نظام المجلسين آنذاك سوى عودة الى "مجالس الشورى" التي كان المصريون اول من درج على اعتمادها، مع فارق أنه في مصر كان التعيين هو المعتمد بينما أصبح للسكان الأصليين في الجبل دور في اختيار اعضاء المجلسين.
وعلى الرغم من حسناته، فقد قضى نظام القامقاميتين على الإمارة وعلى وحدة أراضيها وعلى الحكم المركزي الذي فرضه بشير الثاني الشهابي، وساهم في الإبقاء على أجواء التوتر، وكانت له انعكاسات سلبيّة أدت الى تفجر الوضع من جديد في عامي 1859 و1860 ما أفسح في المجال للدول الأوروبية للتدخل مجددا حيث توصلت مع الباب العالي الى إعادة توحيد الجبل واعتماد صيغة جديدة في الحكم عرفت بنظام المتصرفية. ونصّت المادة الثانية من بروتوكول 1861 - الذي قام على أساسه النظام الجديد - على انشاء مجل إدارة طائفي مؤلف من إثني عشر عضواً موزعين على النحو التالي: إثنان من المورنة ومثلهما عن الدروز والروم الأرثوذوكس والروم الكاثوليك والسنة والشيعة، وحصرت مهمة المجلس بالإشراف على توزيع الضرائب والتدقيق في ميزانية الجبل والنظر في القضايا التي يعرضها عليه المتصرف.
العميد م. ناجي ملاعب