سال وسيسيل حبرٌ كثيرٌ لإجراء المقاربات التي تحتملها أحداث الطيونة ومتفرعاتها وما رافقها. تشعبت السيناريوهات لتفسير ما حصل والظروف التي قادت إليه. وإلى ما أحيته من ذكريات مؤلمة، فقد تعدّدت القراءات المتناقضة حول توقيتها وشكلها وساحاتها. وإن كان لبعضها أسباب موضوعية، لا يمكن تجاهل أخرى تعطي الأحداث أبعاداً اخرى لا بدّ من ان تظهر يوماً؟ فكيف ولماذا؟
في انتظار معرفة كثير مما لا يزال غامضاً حول ما رافق أحداث الطيونة والشوارع المتفرعة منها قي اتجاه عين الرمانة وبدارو وطريق صيدا القديمة، والظروف التي قادت الى استخدام الاسلحة، وما سبقها وتلاها من أجواء تصعيد، كان لا بدّ من ترقّب نتائجه على أمن المنطقة وقاطنيها، كما على الأمن والاستقرار، في مرحلة هي الأخطر والأصعب التي يعيشها اللبنانيون، والمخاوف مما هو آتٍ، طالما انّ الحديث لم يتوقف عن احتمال الوصول الى ما هو أصعب مما شهدته البلاد حتى اليوم، من دون ترسيم معالمها التشبيهية المنتظرة.
على هذه الخلفيات، وعلى وقع الاسترسال في سوق السيناريوهات الغريبة والعجيبة، وتلك التي تحاكي بعضاً مما نعيشه اليوم، وأخرى تتجاوز بعض الوقائع الدامغة التي لا نقاش فيها، من أجل الانحراف بما حصل وتسويقه في خدمة مشاريع واستراتيجيات مختلفة، تتسلّح بما هو غير ثابت وبما هو مقدّر من توقعات بُنيت عليها، وهو ما يؤدي الى صعوبة إجراء أي قراءة موحّدة لما حصل، بعدما توسّعت مخيلة البعض في رسم أطرها، في ظل فقدان أي معلومات عن التحقيقات التي كُلّفت بها مديرية المخابرات في الجيش، وتلك التي تقوم بها الأجهزة الاخرى، استناداً الى ما لديها من معطيات وما جُمع من معلومات، يمكن ان تؤدي الى تصور نهائي يرضي بعض اللبنانيين، طالما انّ إرضاء جميع الأطراف مستحيل والأمثلة كثيرة لا تحصى.
واستناداً الى ما تقدّم، وعند البحث عن كل ما قاد الى ما جرى من أحداث، يفترض العودة اولاً الى ما هو معلن من أسباب أدّت إلى هذا التحرك الذي نظّمه الثنائي الشيعي أمام قصر العدل وداخله، والذي قيل إنّه على مستوى نخبوي قانوني ونقابي، تحت شعار رفض أداء المحقق العدلي، وحتى إبعاده من موقعه، مع الإصرار على ان يكون تحركاً راقياً وهادئاً، يبتعد عن الطابع الشعبي الحاشد. ولكن على من يتوقف عند هذه الواقعة، عليه ان يعترف انّ دعوة اخرى أُلحقت بها ليل الاربعاء - الخميس، للتجمّع عند مستديرة الطيونة عند الحادية عشرة قبل ظهر الخميس، للانضمام الى الحراك السابق في قصر العدل.
وعليه، فإنّ احد السيناريوهات ربط ما حدث بالخروج عن الخطوط التي رُسمت للتظاهرة الى الطيونة، فدخل بعض المتظاهرين الى الشوارع الداخلية في عين الرمانة، حيث سُجّلت مواجهات متفرقة رافقت اعتداءات بالعصي والحجارة التي طاولت سيارات ومؤسسات، على وقع هتافات دينية أثارت الاستفزاز، فكانت سلسلة من المواجهات التي سبقت بتوقيتها إطلاق الرصاصات الأولى.
والى هذه المعطيات، ولمّا دبّت الفوضى، تسارعت الاتصالات، لمعرفة هوية مطلقي النار من كل الإتجاهات التي أدّت الى الصدام بمجموعات كانت ترافق المتظاهرين، حفظت أسلحتها في سيارات مع آخرين يواكبونهم من بعيد، تمركزوا في المناطق المقابلة على الجانب الآخر من طريق صيدا القديمة، فاختلط الحابل بالنابل، وباتت وحدات الجيش بين نارين من أرض المواجهة، بعدما تعدّدت الأفلام القصيرة المتداولة، مع صعوبة إبراز أي افلام أخرى تتحدث عن وجود قنّاصة، ما خلا الرواية التي قالت عن توقيف قنّاصين في أحد المباني العالية لجهة الضاحية الجنوبية خلف فصيلة قوى الأمن الداخلي، من دون ان يثبتها أي اعتراف او تقرير ثابت. فبيان قيادة الجيش قال بتوقيف 9 مسلحين من الطرفين، ومن بينهم احد السوريين، قبل ان يتحدث البعض عن ارتفاع العدد الى 13 شخصاً، من دون الإشارة الى وجود قناّصين من بينهم.
وفي ظل فقدان أي معلومات دقيقة عن نتائج التحقيقات، تلاحقت الروايات المتناقضة بين نفي وتأكيد، ما يثير الجدل العميق والعقيم، وما يمكن ان يؤدي الى إثبات وقائع تقنع أكثرية اللبنانيين الساعين الى شيء من الحقيقة، بعيداً من الإستثمار السياسي. وهو ما قاد حتماً الى استمرار النقاش الحاد بين مختلف الأطراف، الى درجة يستحيل الوصول من خلاله الى أي تفاهم يطوّق ما حصل وينهيه، عدا عن القلق من كون ما حصل أولى حلقات مسلسل طويل يمكن ان يتجدّد في أي لحظة، ولأي سبب. او اعتباره حادثاً عابراً انتهت مفاعيله عند ما انتهى إليه من ضحايا ومصابين وأضرار.
ولذلك، يقول العارفون، انّ التوصل الى قراءة ما حصل على حقيقته سيبقى بعيد المنال. فالاستثمار السياسي سوق مفتوحة لا يمكن إقفالها ووضع حدّ لها. فالأخذ بمضمون البيانات الرسمية بما فيها من ادّعاءات ونفي، يقود الى التشكيك بصدقية ما ترسمه من سيناريوهات توزيع الأدوار وتصنّف الفائزين والخاسرين مما حصل، لتُبنى عليها معادلات جديدة خاطئة.
ولكن ذلك لا ينفي وجود من يسعى الى تغيير قواعد اللعبة الداخلية، كأن يقول احدهم إنّ لا بدّ من وقف المواجهة غير المعلنة بين «حزب الله» ورئيس الجمهورية وفريقه، لتحويل مجرى الأحداث الى ما بين الجيش وقوى محلية أخرى تسقط الطرفين. كما انّ هناك من يرغب بتقوية خصوم «التيار الوطني الحر» تحت شعار الدفاع عن المسيحيين، إن استمر نصب المكامن بين رئيسه وأقطاب آخرين مما هو مطروح.
كما لا تُسقط المراجع المهتمة بالأحداث، إمكان ان يكون ما حصل تزامناً مع زيارة نائبة وزير الخارجية الاميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند الى بيروت، للتعكير عليها، في مواجهة غير مباشرة أعقبت زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين امير عبد اللهيان قبل أيام الى بيروت، وهو ما يعطي أدواراً لمخابرات أجنبية جنّدت طابوراً خامساً، في إطار المواجهات المفتوحة على شتى الاحتمالات بين القوى الاقليمية والدولية. وما اختير للمناسبة من أسباب، لا ينفي وجود أهداف يمكن تسويقها في الخارج. وكل ذلك يجري فيما يتلهّى الداخل بالهرطقة الدستورية والقانونية المرتكبة، عند مقاربة مصير القاضي طارق البيطار في موقعه من عدمه، رغم وضوح بيان «نادي قضاة لبنان»، الى ان ينجلي غبار المعركة في الخارج وتظهر انعكاساتها الداخلية.
وإن أراد اللبنانيون سيناريوهات أخرى، فالمقال لا يتسع لكثير منها وما يبررها. فما هو ثابت، إنّ اللبنانيين انقادوا اكثر من مرة مرغمين الى حيث لا يريدون. وقد يكون ما حصل أحد التجارب المستنسخة من تاريخ الحروب الداخلية، في انتظار الحسم، إن كانت مواجهة محدودة قد عبرت، او الحلقة الاولى من مسلسل جديد قد يودي بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة وبما هو مطروح للخروج من الأزمات، الى حيث يحذّرنا البعض مما لا يتوقعه او يراه احدٌ من قبل.