بمعزل عن الآليات القضائية والقانونية التي واكبت الكشف عن رسالة «التهديد» التي وجّهها رئيس وحدة التنسيق والارتباط في «حزب الله» وفيق صفا الى المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ طارق بيطار، فإنّ الامور رهن بنتائجها. وإلى تلك اللحظة يجدر التوقف عند توقيت الرسالة وشكلها ومضمونها، لما تحتمله من تأويلات، ومن بينها اعتبار احد القريبين من الحزب، انّ «المنخار» الذي استُخدم في الرسالة هو «أقرب الى العقل من الزند والزناد». فما الذي يعنيه ذلك؟
في انتظار أن ينجلي كثير من التفاصيل التي يمكن ان يأتي بها التحرك الذي اطلقه المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، منذ ان طلب من بيطار إعداد تقرير حول ما يتمّ تداوله عن رسالة شفهية وصلته بالواسطة من صفا، وصولاً الى ما هو متوقع من إجراءات تشكّل تتمة لمضمون كتاب بيطار الخطي الذي استجاب لكتاب عويدات خطياً، مؤكّداً تلقّيه مثل هذه الرسالة، فإنّ الامور تتجّه الى مزيد من التطورات، التي وإن غلب عليها الطابع القضائي من ضمن السلك، فإنّ تفاعلاتها السياسية اتخذت منحى كبيراً ليس مستغرباً. فالمواجهة مفتوحة بين مؤيّدي بيطار ومنتقديه، ولم تزد رسالة التهديد، متى ثبت أنّها واقعة صادقة، أي شيء جديد يمكن ان يغيّر من المنحى التصاعدي الذي اتخذته القضية، نظراً الى حساسية المرحلة التي بلغها التحقيق الذي يقوده بيطار ودقّته وخطورته.
من هذه المعطيات البديهية التي لا تحمل كثيراً من النقاش، لم يعد مستغرباً ان تحمل المواقف والتصريحات المتناقضة، التي فرزت اللبنانيين بين مؤيّد لإجراءات المحقق العدلي ورافض لها، مزيداً مما يرفع من نسبة التوتر على شتى الاحتمالات. فبيطار ماضٍ في إجراءاته ويتحيّن الفرص للوصول الى إحضار كل من اراد ان يستمع اليه، من مستوى رئيس حكومة سابق ووزراء ونواب وقادة اجهزة ومسؤولين حاليين وسابقين وإداريين وقضاة. فهو قاضٍ عدلي كُلّف مهمة التحقيق في جريمة كبرى، لا تحدّه سلطة أخرى الى حدّ ما، لما له من صلاحيات مطلقة، ما عدا تلك التي تحتّم اللجوء الى إجراءات تقليدية يتصل بعضها بطلب اذونات بملاحقة مسؤولين، او طلب رفع الحصانة عن آخرين. فهو يتعاطى مع قضية خطيرة تجاوزت حدود لبنان، وقفزت الى واجهة الأحداث الدولية والاقليمية منذ وقوعها في 4 آب 2020، في اعتبارها من أخطر وافظع ثلاثة انفجارات هزّت العالم. هذا قبل ان تُقاس بنتائجها البشرية والعمرانية وخصوصاً تزامنها مع مجموعة أزمات مختلفة، مالية ونقدية وصحية وتربوية، تعيشها البلاد، في زمن اجتاحت فيه كورونا لبنان والعالم بأجمعه وتسببت بملايين الضحايا ومئات ملايين المصابين.
على هذه الخلفيات، يتوقف المراقبون أمام خبر رسالة «التهديد» الذي وجّهه صفا الى بيطار، في اعتباره حدثاً مكملاً لما يتعرّض له من اتهامات. وبخلاف شكل الرسالة ومضمونها وتوقيتها، فهي لا تختلف كثيراً عن جملة مواقف أخرى واكبت مسيرة من سبقه الى هذه المهمة، القاضي فادي صوان، وادّت الى تنحيته عن الملف بتهمة الارتياب المشروع، قبل ان تتجدّد الحملة التي تستهدف الخلف ايضاً. وإن اختلفت اساليبها، فالهدف منها واحد، وعدد من ابطالها هم انفسهم ممن خاضوا التجربة الناجحة الأولى. وإن زاد عددهم في المرة الثانية، فالامر طبيعي جداً، بعدما تقدّمت التحقيقات الجارية وشملت مسؤولين آخرين.
ومن هذه الزاوية بالذات، يتوسع المراقبون القريبون من خط المواجهة مع بيطار في قراءتهم «التهديد ـ الحدث»، ويصرّون على عدم تحميله أكثر مما يحتمل، رغم معرفتهم الدقيقة انّ من وجّهه هو في موقع يثير الجدل أكثر من غيره. وهم يعتقدون أنّه وبمعزل عن النيات وما أراده مسرّبو التهديد، فإنّه أمر عادي لا يستأهل كل هذا الضجيج، وإن عدّه البعض عادياً فإنّ آخرين ينظرون اليه بعين الريبة ويرون فيه فرصة لتقديم الصورة التي يرغبون بها عن «حزب الله» الذي يتوسع في اتجاه القضاء، بعد الإدارة والأمن والإقتصاد وأسواق المحروقات على حساب الدولة والقانون والنظام، لأسباب متعددة، وإن كانت السياسية منها في مقدّمها. فصفا رجل أمني لا شبيه له في اي حزب او تيار لبناني آخر، وادواره تحكي عنه في الداخل والخارج الى ان جعلته بصورة دائمة في عين العاصفتين الداخلية والخارجية.
ولكن، وإن توسّع هؤلاء في تبرير ما حصل، يصرّون على انّ ما نُقل من كلام تهديدي لصفا ليس جديداً، فقد سبقته مواقف معلنة للامين العام للحزب نفسه السيد حسن نصرالله، الذي وجّه الى السلف كما الى الخلف، اكثر من رسالة مدوية حتى اليوم. وهو لم يعد وحيداً في هذه المواجهة المفتوحة مع بيطار.
فإشارة رئيس مجلس النواب نبيه بري في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر الى «قاضي الارض للاتعاظ من قاضي السماء»، لا تقلّ اهمية وخطورة عن مضمون بقية التحذيرات. هذا قبل وبعد ان يخطو مجلس النواب خطواته الهادفة الى منع قاضي التحقيق العدلي من التحقيق مع رئيس الحكومة او اي من الوزراء والنواب، في اعتبار انّ هذه المهمة هي للمجلس النيابي، قبل إحالتهم الى المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب، عند إثبات اي تهمة. وكان ذلك قبل ان تتوسع رقعة المواجهة بانضمام رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية في إشارته للانتصار للوزير يوسف فنيانوس والدفاع عن حقه وبراءته، قبل ان ينضم المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى من دار الفتوى، الى حملة التحذيرات، من استمرار بيطار في إجراءاته ضدّ رئيس الحكومة السابق حسان دياب، قبل ان يعلن النائب نهاد المشنوق الذي يلاحقه بيطار، ان عنوان منزل دياب هو في دار الفتوى وليس في تلة الخياط.
والى هذه المعطيات التي يتوسع في قراءتها القريبون من «حزب الله»، للتخفيف من مضمون تهديدات صفا، فهم لا يتجاهلون مسلسل المراجعات القانونية التي أُطلقت مجدداً، فدعوى الارتياب التي تقدّم بها فنيانوس تلتها دعوى المشنوق بطلب ردّ بيطار عن تحقيقات المرفأ، على وقع دعوة المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان الى عزله، رافضاً ظهور «ديتليف ميلس جديد». واعلان وزير الداخلية الجديد بسام مولوي الى من يعنيه الأمر قراره بعدم تبليغ دعوة دياب والمشنوق وزعيتر وحسن خليل، للحضور امام بيطار بواسطة قوى الامن الداخلي.
وبناءً على كل ما تقدّم، ينتهي أحد المراقبين الى ضرورة عدم اعطاء التهديد المنقول عن صفا بأي طريقة كانت، الاهمية التي يصرّ عليها البعض. وتوقف امام مضمون التهديد، فلفت بالتورية الى «معادلة جديدة» تقول: انّ «المنخار» الذي حمله التهديد هو «أقرب الى العقل من الزند الذي يضغط على الزناد» فليطمئن من يرغب بأن يفهم ذلك، وفي حال العكس لا حول ولا قوة.